ورشة الشرق الأوسط الجديد.. عن الخرائط السائلة وفراغ المُمانَعة والاحتلال

تغيّرت المنطقة فى عشرين شهرًا كما لم يحدث فى عقدين أو يزيد. وبينما يتداعى القديم، ولم يُولَد الجديد بعد؛ فإنَّ السيولة الراهنة مفتوحة على كل الاحتمالات تقريبًا؛ إلا أن يكون التغيُّر للأفضل.
لا أحد يعرف ما يمكن أن تؤول إليه الأحوال، ناهيك عن الجَزم بالاستحقاقات الواجبة وكُلفتها المطلوبة.
العدو من أمامنا، والفراغ من ورائنا، والمراكب إمَّا غرقت فى «طوفان السنوار»، أو احترقت فى «جحيم نتنياهو».
أما المساحات التى مُلِئَت غصبًا؛ فقد أُخلِيَت من شاغليها بالطريقة ذاتها، ولا صوتَ يعلو فوق صوت القهر والإذعان والخيارات الاضطرارية المُؤلمة.
فى فلسطين مثلاً، صارت العودة إلى السادس من أكتوبر، بكلِّ مظالمه الثقيلة أصلاً، أقربَ إلى حلم مستحيل. لبنان عاد مُحتلًّا بعد عَشريَّتَين من التحرُّر النسبى، وسوريا انفكّت من قبضة الأسد؛ لكنها ما تزال أسيرةً لأزمنته الرمادية، وهى أدنى للدخول فى عِصمة الرؤية الصهيونية، من مُغادرة ماضيها المُحايث بين خطاب المُمانَعة وسلوك المُهادَنة.
الرابح الوحيد حتى الساعة يجلس تحت شمس تل أبيب، يُراقب التفاصيل ويتلاعب بها، مُنتظرًا أن يتحصَّل من الفوضى والإرباك على ما لم يَنَله بالانتظام الهشّ. فيما لا تختلف الخلاصات ببقاء حكومته أو رحيلها، وقد ثبَّتَ زعيمُ الليكود مُعادلاتٍ جديدة على كلِّ الجبهات المفتوحة، ولم يعُد الاستبدالُ السياسى فارقًا بدرجة تُذكَر إزاء الاستبداد بالخرائط وساكنيها، بينما بيئات الخصوم مُهدَّدة بثباتها، وتتهدَّدها الحركةُ العشوائية أو غير المحسوبة بدرجةٍ أخطر.
تُدار المفاوضات بشأن غزّة على مروحة محكومة بالاختيار بين السيِّئ والأسوأ. تعلو أولوية الإنقاذ وإنهاء الهجمة الإبادية على غيرها من الأهداف، ويتخطّفها سُعارُ الاحتلال من ناحية، وإعلاء حماس لمصالحها الحَركيَّة من الناحية الأُخرى.
والتوفيق بين الرؤيتين يبدو مستحيلاً فى ضوء التوازُنات القائمة، مع انقسام التوجُّهات الإقليمية بين تيَّارٍ عاجز عن ترويض الصهاينة والحماسيين، وآخر لا يرغب فى خسارة وظيفية الحركة، وغير قادر أيضًا على كبح جنون الاحتلال.
وحده ترامب يستطيع أن يُجبر المُعتدِى على التوقُّف؛ لكنه ميَّالٌ إليه بالنَّفس والعقل، ومشدودٌ بكراهيّته لأُصوليَّة الفصائل ومطامعه فى غزَّة وغيرها.
وما يجرى على القطاع، يصحُّ فى بقيَّة الساحات الساخنة، مع فروقٍ طفيفةٍ فى الخشونة والمُطاوَعة ومقدار الانحياز. وتظلُّ كلُّها مُعلَّقةً على الرافعة الإيرانية بدرجةٍ أو أخرى، ما بين الإقدام والإحجام والتوجُّس والارتياب والدعايات المُجوّفة والثارات المُتأجِّجة.
لم يَعُد حزبُ الله قادرًا على حراسة مواقعه القديمة فى لبنان؛ لكنه ممنوعٌ على الأرجح من إخلائها. وثمّة افتراق واضح بين قيادته السياسية وجناحه العسكرى، يُستَشَفُّ من تضارب التصريحات وتقلُّباتها بين الأمين العام وكُتلته النيابية، وبُطء الإيقاع فى تسليم السلاح جنوبىّ الليطانى أو شماله.
ويُحتَمَل بالطبع أنَّ اختراق الحرس الثورى للميليشيا، كانت من مفاعيله تبعيَّةُ الجناح المُسلَّح للرأس مُباشرةً، لا سيَّما بعد القضاء على قائده التاريخى حسن نصر الله، بوضعيَّته التى لا يُمكن أن يُعوِّضها نعيم قاسم أو يملأها هو وسواه، وبوَزنِه الذى سمح له بالنيابة عن قاسم سليمانى بعد مقتله فى الإشراف على بقيَّة الأذرُع وإدارتها.
وإذا كانت الحاجةُ لقوَّةِ الحزب عاليةً قبل انكشاف إيران؛ فإنها صارت أعلى اليومَ، ولن يُسلّم الولىُّ الفقيه بانحلال ولايته على الضاحية، أو بتحريرها من الالتزام تجاه طهران، لصالح الانخراط فى شواغل بيروت.
والمسألةُ على جانب الشام أعمقُ وأكثر تعقيدًا؛ إذ ما تزال خسارة الجمهورية الإسلامية فيها أكبر وأشدّ فداحة، لناحية كَسْر الهلال الشيعىِّ وقطع الطريق بين أطرافه، وافتقاد حضورٍ جيوسياسىٍّ بالغ الأهميّة والتأثير، فضلاً على انقلاب الحظيرة الخلفيَّة إلى الجبهة المُضادّة تمامًا.
لم تبرأ قيادةُ المحور من وجيعتها فى دمشق، وقد لا تتوقَّف عن محاولات التشغيب على نظامها الجديد. أمَّا «الجولانى» وحكومته فما زالا فى أَسْر الهاجس القديم، وتتأسَّس شرعيّتهما إلى الآن على إطاحة العائلة الأسدية، والخروج من ولاية الشيعية المُسلَّحة فحسب.
لا نجاحات داخليَّة ملموسة، ولا قُدرة على العبور بالمجهود الفردى، كما لا رغبة حقيقية فى تغيير الأوضاع بنزوعٍ ثورىٍّ أو إصلاحىٍّ صافٍ.
ولأجل أن تكتمل المهمَّة؛ عليه الدخول فى مظلَّة الرُّعاة الخارجيِّين، أو الالتحاق بقطار الفُرَص المعروضة على الطاولة، من أوَّل التهدئة الراضخة للاحتلال الإسرائيلى، وإلى الدخول فى قافلة التطبيع مع سداد أثمانه الباهظة، والتى سيكون فيها أكثر رخاوةً وتنازُلاً من أقصى ما وصل إليه سابقوه من تردٍّ وتفريط.
يتردَّد الآن أنَّ الحاكم السورىَّ، المكتوب اسمه بالقلم الرصاص، مَدعوٌّ للانخراط فى مسار «الاتفاقات الإبراهيمية» الذى سبقته إليه أربعُ دولٍ عربية، وتترقّبه عواصم أخرى تُوشِك بعضها أن تقع فيه قريبًا.
حكومة تل أبيب تُبدى رغبةً ظاهرة فى التقارُب مع دمشق؛ لكنَّ وزيرَ دفاعها يسرائيل كاتس اشترط أن تكون الخطوةُ بلا مُقابلٍ تقريبًا؛ إذ تمسَّك بالمُكتسبات الجغرافية الجديدة فى القنيطرة ومرتفعات جبل الشيخ، وليس بالجزء المُحتلّ سابقا من هضبة الجولان فحسب.
كأنه يُلوِّح لقائد هيئة تحرير الشام، الخارج حديثًا من تجربةٍ إرهابيّة طويلة، بضرورة الاكتفاء بالتجاوز عن ماضيه، وانفتاح ذراعَى الجارة الصهيونية لاحتضانه والإقرار بشرعيّته؛ لتكون المُقايضة هنا فرديَّةً لا وطنية.
وما فات؛ يُحتَمَل أن يتمرَّد عليه «الجولانى» ابتداءً، إنما على الأغلب سيرضخ لاحقًا تحت ثِقَل الضغوط الأمريكية، وطموح أنقرة لتمرير الصيغة الجديدة؛ بالرغم من احتدام تناقُضات الداخل والخارج بشأنها، ومن عجز السُّلطة الظرفيّة المُؤقَّتة عن التوصُّل إلى وَصفةٍ مُنضبطة للمُصالحة والعدالة الانتقالية وإرساء منظومة حُكمٍ حداثيّة رشيدة، ونهمها المُفرط لتحويل العارض إلى دائم، وتثبيت أركانها بمعزلٍ عن الناس، وقفزًا على استحقاقات البناء المنطقى للدول فيما بعد الثورات أو الاحترابات الأهلية.
محنةُ أحمد الشرع/ «الجولانى» سابقًا وحتى الآن؛ أنه واقعٌ فى قلب دائرةٍ واسعة من الضغوط والاستقطابات: الشارع المُتطلِّع لتجاوز أزماته الحادة وتداعيات الحرب الأهلية الطويلة، حُلفاء الجماعات الراديكالية المُسلَّحة بما يرونه فيه من انتهازيّة ونكوص عن الفكرة العقائدية، شبح إيران بظلاله المادية وعداواته المذهبية، آمال العثمانية الجديدة ومُقتضيات الوفاء بديونها عليه، وأخيرًا هندسة إسرائيل للإقليم برعايةٍ أمريكيّة، يهمُّه أن تظلَّ راضيةً عنه ليتأمَّن له العبور.
وحال المُفاضلة بين العناصر السابقة كلِّها؛ فلن يكون الداخلُ فى مقدَّم أولوياته غالبًا، وقد يكتفى عنه وعن أبناء الحظيرة الأُصوليّة بثلاثيّة التوافق بين الأتراك والأمريكيِّين والصهاينة.
كانت الحربُ اختيار حماس لتحريك الجمود فى المشهد الفلسطينى؛ لكنها فتحت ثغرة لعدوِّها، لا لأن يُجهِز عليها فحسب؛ بل ليُعيد تفكيك المنطقة وتركيبها على مُرتكزاتٍ مُصطَنَعة، ويصهرُ سبيكة المُمانَعة بالنار؛ تمهيدًا لإعادة سَبْكها فى صورتها الجديدة بالسياسة والتسويات الإجبارية.
والحركة بعدما أخذت بزمام المُبادرة؛ ارتدّت إلى موقع ردِّ الفعل، مع تآكل الإمكانات وتبدُّد الخيارات تمامًا. إذ صار ظهرها مُلتصقًا إلى الجدار، لا تعرف طريقًا للخروج من الميدان، ولا كيف يُمكن أن تستمر فيه بقُدراتٍ عاريةٍ ومواءمات قاتلة.
وعلى خلاف ما يبدو ظاهرًا؛ لناحية أن الاشتباك فيما يخص شروط التهدئة، والنفاذ إلى «اليوم التالى» بقدرٍ ما من الحضور الحماسىّ؛ فإن المُعضلة الأكبر أن ما تبقّى من هياكلها سيظلُّ مُطاردًا فى الخارج والداخل؛ ولعلّها لهذا ترفض التفاوض على أى احتمال يُفضى لإبعاد عناصرها من القطاع.
البحث جارٍ عن منفذ لإسكات البنادق؛ لا إنهاء القتال بكلِّ صُوَره وتنويعاته. لأنّ الشقّ العنيف من الجولة حالما ينتهى؛ ستّتخذ طابعًا أهدأ شكلاً، وأشد صخبًا فى المضمون. بمعنى أنَّ إسرائيل لن تتوقَّف عن المُطاردة، وستُحاصر البقيّة الباقية منهم داخل غزّة، كما فى لبنان وسوريا، وربما تُوسّع قوس الاستهداف إلى عمليات تحييد خشنة فى عواصم أُخرى، وضغوط على قطر وتركيا لإعادة ترتيب علاقاتهما بالحركة وعموم الفصائل الأُصوليّة.
لا يُريد لبنان أن يبقى تحت رحمة القصف والمُسيَّرات. وعليه أن يُسرِّع ماكيناته لإنفاذ مُقتضيات القرار الأُمَمىّ رقم 1701، وبنود اتفاق وقف الأعمال العدائية مع الاحتلال. وقد سمع الرسالة بلهجة حادة من نائبة المبعوث الأمريكى مورجان أورتاجوس، ثم بنبرة ألطف من المبعوث إلى سوريا توم برّاك.
وإزاء مُكابرة الحزب واعتراضاته؛ فإن الأوضاع إمَّا أن تتصاعد أو تبقى على حالها، والبديل بين تعطيل العهد الجديد ومُتطلبات التداوى وإعادة الإعمار، أو انتقال الاشتباك من وراء الخط الأزرق إلى قلب العاصمة، بمعنى أن تتشظّى البيئة السياسية بأكثر مِمَّا هى عليه، ويتعاظم التشاحُن بين الطوائف وفعاليّاتها الرديفة، مع ارتياب مُتبادل بين الجميع، ومخاوف دائمة من شبح الصدامات الطائفية.
ليس فى طاقة الميليشيا أن تردّ على تجاوزات الصهاينة، ولا أن تُقدِّم التنازُلات المطلوبة لحصارها بالدبلوماسية والقانون. وفيما تُطالب بجلاء الاحتلال عن النقاط الخمس التى يسيطر عليها؛ تتناسى عمدًا أنها كانت السبب فى استجلابه، وتُغطّى على خطاياها باستعادة سردية مزارع شبعا، مع العلم أنها مسألة مُركّبة بالنظر إلى التنازُع عليها مع سوريا، وكما لم يُخلّها الأسد فى أزمنة الوصاية على لبنان؛ فلن يُبادر الجولانى بحَسمها اتّصالا بالرغبة الإسرائيلية، أو تعويضًا عمَّا سيُضطرّ لتقديمه من عطايا للعدوّ ووصيّه الأمريكى.
وعليه؛ فإن ما انخرط فيه نصر الله صبيحة اليوم التالى للطوفان، تحت عنوان «الإسناد والمُشاغلة» لصالح غزّة، يبدو أنه غادر نطاق الاختيار إلى الضرورة والإجبار. أى أنه إمَّا أن يُقرّ الآن بخسارته لحرب العام 2006 بأثر رجعى، بعد تبدُّد مفاعيلها مع وقائع التحرير قبل ذلك بستّ سنوات، أو أن يظلّ معتصمًا بالسرديّة القديمة دفاعًا عن وجوده أوّلاً، ثم عن الحليف الإيرانى، وأن يظل شوكةً فى خاصرة النظام السورى الجديد.
والسوريّون سيتمسّكون بالمزارع على أمل أن تسدّ ثغرة فى شهيّة الاحتلال، أو أن يستنقذوا بها بعض ما اقتُطِع منهم عقب إزاحة نظام الأسد. وحتى لا يبدو «الجولانى» مُفرّطًا فى كل الاتجاهات؛ لا سيّما أن ما تُريده تل أبيب ستأخذه بالحرب أو التسوية، ولن يتبقى له أى هامش للتشدُّد سوى على البيئة اللبنانية الهشّة.
وبعيدًا عن التمنيّات والأفكار الرغبوية؛ فإن الطوفان كان وبالاً على بيئة المُمانَعة فى اتحادها، كما فى تفرُّقها وتداعى أركانها اليوم. لقد سمح للطُّغمة التوراتية والقومية فى إسرائيل أن تلضم الساحات ببعضها، وتتنقل بينها بخفّة وترتيب مقصود، ثم أن تُوظِّف السياسة ضدّها لاحقًا؛ لتكون لها ذات ما للحرب من آثار وتداعيات شديدة الوطأة والجَور على الجغرافيا والديموغرافيا.
والمُفارقة؛ أن البقاء فى طَوع المحور الإيرانى لا يختلف عن الخروج عنه والتمرُّد عليه إطلاقا. فالأعباء الواقعة على الحزب وحماس لقاء إخلاصهما للجمهورية الإسلامية، لا تزيد كثيرًا على أعباء الشام وحُكّامها الجُدد بكل ما يُبدونه من عداوة جذرية حادة لها.
كأن طهران ما تزال المُحرّك للأوضاع فى مجال نشاطها القديم: من حليفٍ يُواتى تطلّعاتها دومًا ودون فحص ومُراجعة، أو من غريم يُصوّب ناظريه عليها حصرًا، وتُسيّره العداوة فى وجهاتٍ حدّية لا توازُن فيها؛ فيخرُج من قيدِها لقيود الآخرين، ويستبدل استتباعا باستتباع. يهرب منها ليترمى فى أحضان أعدائها؛ فكأنه ما زال أسيرًا لظلالها فيما يتوهَّم مُغادرتها إلى فضاء فسيح.
والصورة على الجانب الآخر أقل احتدامًا؛ لكن نتنياهو ليس بعيدًا من غابة الأحلام الوردية والآمال الضائعة. لقد أسَّس حربه على فكرة إنهاء سطوة الفصائل فى غزّة، والإجهاز على مشروع الشيعية المُسلّحة، وإعادة ترسيم خرائط الشرق الأوسط وفق اعتبارات لم تُتَح لسابقيه جميعًا.
بينما يتجاهل واقع الإقليم، وقائمة الفاعلين فيه، وحتى المصالح الأمريكية التى يتطلّع إليها ترامب، والأهم أنه يقفز على وضعية بلده الموصوم والمرفوض شعبيًّا، وضآلة حجمه وإمكاناته بما لا يُسعفه على ابتلاع المحيط الواسع، ولا ملء الفراغات المُتولِّدة عن إزاحة المُناوئين والمنافسين.
إسرائيل قويّة فعلاً؛ لكنها أضعف من أن تكون القوّة المهيمنة على المنطقة. وشطب إيران من المُعادلة لا يُحلِّها بديلاً عنها بالضرورة؛ بقدر ما يُفسِح مجالاً للأناضول ومشروعها فى استعادة روائح الامبراطورية العثمانية، كما لدول الاعتدال وما تُقدّمه من بديلٍ عن الصخب الأيديولوجى؛ لكنه يظلّ مُلتزمًا بأُطر السياسة ومُحدِّداتها الثابتة.
صحيح أن بعض البلدان ربما تُفكِّر فى مُقاربة الوِفاق، وتتداولها مع ذاتها أو فى غُرف الأمريكيين المُظلِمة؛ إنما يظل التحرُّر من السرديات القديمة مرّة واحدة فى عِداد المُستحيل. خصوصًا أن بعضها زايدت على السادات فى مساعيه السلمية، وألزمت أنفسها بمُقترحات تسويةٍ ذات شروط واضحة، من قمّة فاس فى المغرب حتى خطّة السلام العربية فى بيروت 2002.
ولا سبيل لنفاذ نتنياهو لغاياته إلا من جهة إنهاء القضية الفلسطينية أوّلاً، وليس فقط التطبيع واستقطاب الشركاء مهما كانت أحجامهم وثرواتهم. وبالنظر إلى صلابة الموقف المصرى إزاء ملف التهجير؛ فبالإمكان القول إن القاهرة تُمثّل اليوم حجر العثرة أمام المشروع، وتُغلق الباب لا على توهّمات الصهاينة وحدهم، بل على نزوات خيانة القضية والمُقايضة عليها؛ ولو تعاظمت فى نفوس اللاعبين الإقليميين، فرادى أو جماعات.
لا معنى لاستكمال الحرب فى غزّة؛ بعدما تآكلت عطاياها وتعاظمت أكلافها. كما لا قيمة لبقاء حماس أو رحيلها. رُمّانة الميزان أن يبقى الغزّيون فى أرضهم، وأن يظل مسرب الإزاحة الديموغرافية مُغلَقًا. وسيترتب على هذا إلزامية الوصول إلى تسوية، واستحالة أن تكتمل خطّة التطبيع كما تتمنّاه تل أبيب أو تدفع إليه واشنطن. لبنان لن يُغادر خيمة الموقف العربى المُعلن، و«الجولانى» لا وزن له فى المُعادلة حاليًا، والعواصم الكُبرى لن تتصاغر لدرجة التناقض بين القول والفعل.
تخطّت الوقائعُ أطرافَها جميعًا؛ حتى أشدهم بأسًا، وأكثرهم مقدرةً على استيعاب الراهن وقراءة الطالع. ولا خِفّة أكبر من التعاطى مع المشهد على أنه طارئ وقابل للاعتدال بعد الانحراف، أو أنَّ بالإمكان استمراء المُغامرة؛ مع الاطمئنان إلى أنهم حالما ينتهون منها، أو يزهدونها، سيكون ميسورًا لهم العودة إلى ما كان، وكأنَّ شيئًا لم يَكُن.
ما جرى فى غزّة على طول الشهور الماضية، وكل الدماء التى جرت فى جغرافيا فلسطين، وعلى امتداد ساحات المُمانَعة وأعضاء محورها؛ ستكون لعنةً على المُبادرين إلى تخليص الاحتلال من مِحنته على حساب ضحاياه، أو المُتمسّكين بالمصالح الفصائلية والأيديولوجية على حساب الأوطان وأولويّاتها، ولن تسمح لراغبى البيع بأن يُنجزوا صفقاتهم؛ أقلّه فى المدى القريب.
خمس سنوات مضت على الدفعة الإبراهيمية الأولى، وكانت فى مناخ هادئ وضمن دراما خادعة. أما الآن؛ فقد تكشَّفت الخيوط أو تقطّعت، ولم يعُد من هامشٍ لافتراض حُسن النوايا، ولا لمُواصلة المُغامرات الفجّة والدعايات الرخيصة.
الفلسطينيون فى حاجةٍ للخلاص من المُقامرين بقضيتهم ووجودهم، ومحور الاعتدال عليه التلاقى فى نقطة جامعة ومُحيّدة عن صراعات الأدوار والطموحات الشخصية، وإسرائيل ستختبر نصيبها من «خضّة الطوفان» بعدما تبرد الجبهات أو يحلّ موسم الانتخابات.
سوريا فى خلّاط عظيم، ولن يكون «الجولانى» بوصفته الحالية آخر حُكّامها ولا أطولهم بقاء، والتنازُلات التى يتحضّر لها أو يستنكفها قد تُربكه بأكثر مِمّا تنقذه. لبنان على فالق عظيم؛ بين أن يستعيد الدولة، أو تُكيِّف الميليشيا وجودها على صورةٍ تُبقى البلد ساحة جانبية وصندوق بريد.
يتغيّر الشرق الأوسط فعلاً؛ لكنه ما يزال فى المصهر حتى الآن، وربما لسنوات مُقبلة. لن يكون على مقاس المُمانَعة بطبعتها الذابلة، ولا رهينًا لخيال الصهيونية بالطموحات التى تفوقها حجمًا ومقدرة.
تُغرى الخرائطُ السائلة صِغَارَها دومًا؛ إنما يظلُّ الفراغ الراهن أكبر من صُنّاعه، وأعصى على أن يبتلعوه أو يهضموه: المُرشد والحزب وحماس والحوثى والجولانى ونتنياهو؛ تشظّت التركيبة الحرجة فى أياديهم، ولا أحد منهم بإمكانه أن يردع الآخر، ولا أن يفرض عليه إرادته بالكامل.
إنها فُرصة العُقلاء؛ شريطةَ ألَّا يرتاحوا طويلاً إلى المُراقبة الصامتة، ولا أن يتورّطوا فى سرديّات الآخرين بدلاً من إنجاز سرديّتهم الخاصة، والأهم ألّا تتسلّط على بعضهم الأطماع والحسابات الصبيانية وأوهام البطولة الفردية المُطلقة.

Trending Plus