أسعد سليم يكتب: نصر حامد أبو زيد ومفهوم النص

مفهوم النص
مفهوم النص

يعد كتاب (مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن) للراحل المفكر الدكتور نصر حامد أبو زيد إسهاما فكريا بارزا يسعى إلى إعادة قراءة النص القرآنى مستخدما المناهج العلمية التي مزجت بين التحليل الأدبى والتاريخى، بهدف فهم النص كمنتج ثقافى يتفاعل مع الواقع الاجتماعى والسياسى والفكرى.

ويرى نصر حامد أبو زيد أن الحضارة الإسلامية هي حضارة النص بامتياز، لكن هذا النص لا يمكنه بمفرده أن يقيم حضارة، بل يتطلب تفاعلا ديناميكيا مع الإنسان ومحيطه، وأن النص القرآنى، رغم منطوقه الإلهى، لكنه يتحول إلى منتج ثقافى متحرك الدلالات عندما يُدمج في حياة البشر، مما يجعل تأويله عملية مستمرة تتطور مع تقدم العصور.

يهدف الكتاب إلى تحقيق هدفين رئيسيين: الأول، إعادة ربط دراسات علوم القرآن بالمناهج العلمية النقدية، والثانى، محاولة تقديم إجابة موضوعية لسؤال يبدو بديهيا لكنه معقد: ما هو الإسلام؟ هذا التساؤل يفتح الباب أمام استكشاف الهوية الحضارية الإسلامية، التي تربط العروبة - بمعناها الثقافي واللغوى وليس العرقى - بالإسلام، في محاولة لفهم جذور هذه الهوية ودورها في التاريخ.

مفهوم النص
مفهوم النص

يبدأ حامد أبو زيد بمناقشة التوتر الحاد والصادم بين التيارين السلفى التقليدي والتنويرى التجديدى في التعامل مع النص القرآنى والتراث، والتيار السلفى يدعو إلى تطبيق الشريعة بشكل حرفى، متجاهلا السياقات التاريخية والاجتماعية التي نزل فيها النص، حيث يهاجم السلفيون المجتمع الحديث ويشبهونه بالمجتمع الجاهلى، متغاضين عن الفروق الأساسية بين القرآن المكى، الذى ركز على التوحيد والعدل في ظل ظروف غير مواتية لتكوين أمة، والقرآن المدنى، الذى جاء بالتشريعات لبناء مجتمع إسلامى متكامل، هذا التشبيه المخل يتجاهل مقاصد الشريعة الكلية، ويفرض تطبيق أحكام مثل الحدود دون مراعاة التحولات الاجتماعية.

وعلى النقيض، يتعامل التيار التنويرى مع التراث بانتقائية واضحة، فيأخذ ما يتماشى مع أفكاره ويترك ما يتعارض معها، مما يؤدى إلى فقدان النص لأصالته، كلا التيارين، بحسب أبو زيد، يفتقران إلى منهج علمى تاريخى موضوعى، مما يؤدى إلى ضياع حقيقة النص وإغفال جدليته مع الواقع، وينتقد أبو زيد أيضا الرؤية التقليدية التي تعتبر علوم التفسير والحديث قد نضجت بشكل نهائي، معتبرا أن هذا الموقف يعيق الإبداع الفكرى ويكرس لعبادة التراث دون تقديم إضافة جديدة.

ويدعو المفكر نصر أبو زيد في مفهوم النص إلى ضرورة وجود وعى علمى بالتراث يتجاوز تمجيد الأسلاف أو التغنى بمجدهم دون تحليل نقدى، ويقترح منهجا ديالكتيكيا صاعدا يبدأ من الثقافة والواقع، مرورا بالمتلقى الأول (الرسول)، ثم الوحى، وصولا إلى الله، على عكس الديالكتيك الهابط السائد في الخطاب الدينى، الذى يبدأ بالغيبى وينتهى بالحسى، وهو ما جعل الخطاب العلمى يتحول إلى ما يشبه الوعظ والإرشاد، والنص القرآنى، كونه لغة عربية تحمل بلاغة وبيانا، يتطلب دراسة أدبية تراعى النحو والصرف والبلاغة، مع الأخذ في الاعتبار أنه بمجرد نزوله أصبح جزءا من الثقافة البشرية.
ويؤكد الكاتب أن تعريض النص للمناهج الأدبية لا ينتقص من قدسيته، بل يبرز تفاعله مع الواقع، حيث كان القدماء يدرسون النص بأدواتهم المحدودة، بينما تتيح الأدوات والمناهج الحديثة تأويلات أكثر نضجا وواقعية.
في سياق تحليل النص، يُعرّف أبو زيد الوحى كعملية اتصال بين الله والرسول عبر اللغة العربية، التي كانت الشفرة الوحيدة المتاحة للمتلقى الأول، لغويا، يعنى الوحى الإعلام في خفاء، سواء بالإلهام، الإيماء، الكتابة، أو الكلام، تاريخيا، كان العرب يؤمنون بالوحى قبل الإسلام في سياق الشعر والكهانة، مما جعل فكرة الوحى للنبى محمد مقبولة، لكن الاعتراض كان على الرسالة ذاتها أو على الموحى إليه، ويثير المؤلف تساؤلا حول ما إذا كان الوحى ينزل باللفظ والمعنى معا أم بالمعنى فقط، حيث يرى فريق أن القرآن أزلى في اللوح المحفوظ، بينما يرى آخرون أن الرسول صاغ المعنى بلغته، والنبى محمد، قبل البعثة، كان إنسانا عاديا متأثرا بالحنيفية، التي مثلت قيما مضادة للثقافة المكية السائدة آنذاك، وسعت إلى خلق هوية حضارية مستمدة من دين إبراهيم وسط تهديديات خارجية من إمارات مجاورة، وأول اتصال بالوحى في غار حراء كان صادما، حيث فُهم رد النبى "ما أنا بقارئ" بالخطأ على أنه خوف وليس أمية، مما يعكس تفاعل النص مع الثقافة الشفاهية. 
يعقد أبو زيد مقارنة بين المكى والمدنى بناء على المعيار التاريخى: المكى ما نزل قبل الهجرة، بآيات قصيرة مؤثرة تركز على الإنذار والتوحيد، بينما المدنى هو ما نزل بعدها، بآيات طويلة تشريعية تناسب بناء الأمة، منتقدا محاولات القدماء التلفيق بين الروايات لتجنب تخطئة الصحابة، معتبرا أن ذلك يفصل النص عن واقعه، مؤكدا على أهمية دراسة أسباب النزول كرابط أساسى بين النص ومحيطه، حيث نزل القرآن منجما على مدى ثلاثة وعشرين عاما ليجيب عن أسئلة الواقع ويتوافق مع الثقافة الشفهية، رافضا فكرة تكرار نزول الآيات أو تعددها لسبب واحد، معتبرا أن ذلك غير علمى ويضعف مصداقية النبى، داعيا إلى فتح باب الاجتهاد لتحديد أسباب النزول بدلا من الاعتماد على روايات متضاربة.

في قضية الناسخ والمنسوخ، يُعرّف النسخ بإلغاء حكم آية أو استبداله، مع الإبقاء على النص أو إزالته، ويرى أن النسخ يعكس التدرج في التشريع، كما في تحريم الخمر على ثلاث مراحل، وهو دليل على جدلية النص مع الواقع، منتقدا فكرة نسخ التلاوة مع بقاء الحكم أو العكس، معتبرا ذلك نتيجة لتقديس الروايات التراثية، ويثير تساؤلات حول أزلية القرآن وإمكانية حذف آيات أثناء تجميعه في عهد الصحابى الجليل عثمان بن عفان.

في آليات النص، يربط أبو زيد إعجاز القرآن ببلاغته وبيانه، مؤكدا أن المعجزة تكمن في اتحاد الوحي بالنص، ويرفض نفي العلاقة بين القرآن والشعر أو السجع، مشيرا إلى أن القرآن تفاعل مع الثقافة العربية، مستخدما الفواصل في الآيات المكية لتأثيرها البلاغي، ويستلهم من المعتزلة، خاصة عبد القاهر الجرجاني، نظرية الإعجاز اللغوي التي ربطت الإلهي بالإنساني عبر البلاغة والنحو.
يُعنى علم المناسبة بالعلاقات اللغوية والأسلوبية بين الآيات والسور، معتبرا ترتيب التلاوة توقيفيا، فسورة الفاتحة، على سبيل المثال، تشمل التوحيد والتذكير والأحكام، بينما تبني سور مثل البقرة والنساء أحكاما اجتماعية واقتصادية، مما يعكس تكامل النص، يُفرّق بين المحكم (الواضح) والمتشابه (الغامض)، مشيرا إلى أن الغموض، كما في الحروف المقطعة، يتطلب تأويلا يعتمد على اللغة والسياق، والحروف المقطعة، بتأويلاتها المتعددة (مثل دلالتها على أسماء الله أو إعجازها اللغوي)، تبرز غنى النص وتفاعله مع الثقافة، ويوضح أبو زيد أن اللغة العربية تميل إلى العمومية، لكن تحديد الدلالة يتطلب مراعاة أسباب النزول، مع إدراج آليات العموم والخصوص، مؤكدا أن المقيد يلغي المطلق.
في التفسير والتأويل، يُفرّق أهل السنة بين التفسير، المعتمد على النقل، والتأويل، المرتبط بالاجتهاد، ويرى أبو زيد أن حصر التفسير في النقل يحد من حيوية النص، مما يحوله إلى علم ثابت لا يراعي التطورات العلمية والاجتماعية، والتفسير يكشف الدلالات عبر علوم القرآن (المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ، إلخ)، بينما التأويل يستنبط المغزى، شريطة الابتعاد عن الهوى والأيديولوجيا لضمان الموضوعية.
إن كتاب مفهوم النص واحدا من النصوص التي ستبقى في ذاكرة أمتنا العربية على الدوام، بشجاعته منقطعة النظير، وبأفكاره الملهمة التي فتحت طريقا للجميع لينهل منها، وبطزاجة أطروحاته الثورية، ولقد مات نصر أبو زيد مقهورا حزينا، لكنى أخبره أنه لا يزال باقيا وسيبقى للأبد، وسيأتى اليوم حتما ولابد والذى ستكون أبحاثه ودراساته العميقة متغلغلة في الوجدان الشعبى لجديتها الشديدة وسعيها الدائم إلى التطور والتنوير مع الالتزام التام تجاه روح الدين ذاته.

 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

لبيان سبب الوفاة.. النيابة تطلب التقرير الطبى لجثة سيدة قتلها زوجها فى المرج

الزمالك يشكر الرئيس السيسى بعد التصديق على قانون الرياضة

ضبط طباخ بقرية سياحية بمطروح لتعذيبه قطة تسببت فى تلفيات داخل المطبخ

دموع التماسيح بجنازة الضحايا.. زوجة أب تقتل أفراد أسرة كاملة فى ديرمواس بالمنيا.. وتعترف: وضعت لهم السم فى الخبز.. حاولت الانتقام من زوجى لرغبته فى رد ضرتى.. وتؤكد: تظاهرت بالحزن وبكيت وزرت قبرهم لإبعاد الشبهة

الداخلية تضبط 3 أجنبيات حولن منزلهن بالتجمع وكرا لممارسة أعمال منافية للآداب


أخطر 5 اعترافات لقاتلة أسرة دير مواس: "مشيت فى جنازتهم علشان أبعد الشبهة"

الدورى السعودى يحتفى بعودة أحمد حجازى للظهور مجددا

أخبار مصر.. انخفاض بدرجات الحرارة غدا والعظمى بالقاهرة 35 درجة والإسكندرية 32

ريبيرو يستبعد 9 لاعبين من قائمة الأهلى لمواجهة غزل المحلة بالدوري

زوجة الأب سممت الجميع.. الداخلية تكشف سبب وفاة أسرة دلجا بديرمواس


دموع الفرح تملأ الحرم فى عمرة المولد النبوى.. صور ودعوات وهدايا.. المصريون يوثقون عمرة المولد.. المعتمرون يزورون حراء وغار ثور ومنازل الصحابة.. ويتفقدون مشاعر عرفات ومنى والمزدلفة للذكرى

أوضاع المرأة فى السودان.. حرب خشنة على الجنس الناعم.. النساء أكثر المتضررين من الأزمة السودانية.. يسددن أفدح تكاليف الحرب.. وزيرة الدولة للموارد البشرية: أوضاعهن صعبة للغاية.. ويتعرضن لانتهاكات جسيمة وخطيرة

التأمين الصحى: 37 مركزا مجهزة بأعلى التجهيزات لعلاج الأطفال المصابين بالسكر

ناشئو اليد يغزون صالات أوروبا

هل ينخفض تنسيق الثانوى العام فى محافظة الجيزة؟

الجولة الرابعة تحدى وصراع فى الدورى.. الأهلي يستهدف الفوز للمنافسة على القمة.. المصري يتمسك بالصدارة أمام الكبار.. 8 فرق تبحث عن أول انتصار.. بيراميدز يسعى لإيقاف نزيف النقاط.. والزمالك فى مهمة مثيرة أمام فاركو

رقم قياسي ينتظر محمد صلاح في مباراة نيوكاسل يونايتد ضد ليفربول

خدمات البريد بأوروبا توقف شحن طرود لأمريكا بسبب انتهاء إعفاء الرسوم الجمركية

النصر ضد الأهلى.. بعثة الراقى تصل جدة بعد التتويج بالسوبر السعودي "صور"

باختصار.. أهم الأخبار العربية والعالمية حتى الظهيرة.. استئناف دخول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين بغزة.. زلزال بقوة 4.1 درجة يضرب ولاية "جوهر" الماليزية.. روبيو: نؤمن بتسوية تفاوضية تحفظ السيادة الأوكرانية

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى