العلاقات المصرية الإفريقية.. رؤية استراتيجية متجددة

تحتل مصر مكانة محورية في القارة الإفريقية، استنادًا إلى التاريخ وخصوصية الهوية الحضارية وقوة الروابط المتجذرة، وتقاطع المصالح المشتركة والشراكة المصيرية في ملفات التنمية والمياه والأمن، فمنذ فجر التاريخ ومصر تتكامل مع الجنوب، تستمد من إفريقيا عمقها الحضاري والوجودي، وتبث في المقابل أنوار الحضارة والمعرفة، وتنقل إلى أشقائها نظم المؤسسات والبنى التحتية، فارتبطت شعوب القارة على امتداد نهر النيل بشريانٍ نابض بالحياة والتاريخ والمصير المشترك واليوم، تتجدد هذه الروابط في ظل رؤية استراتيجية متكاملة للقيادة السياسية المصرية، تسعى إلى إعادة بناء العلاقات المصرية الإفريقية على أسس من المصالح المتبادلة، والتكامل الاقتصادي، والدبلوماسية الفاعلة، في زمن يشهد تحولات جيوسياسية متسارعة، وتنافسًا متزايدًا على فرص القارة وتحدياتها.
ويمثل انتماء مصر لإفريقيا خيارًا واعيًا وإستراتيجيًا، وقد بنت مصر لنفسها من خلال مواقفها الخالدة والتزامها الصادق تجاه قضايا التحرر والوحدة، صورة ذهنيةً إيجابيةً راسخة في وجدان الشعوب الإفريقية، كرمز للمناصرة والتضامن والتكافل، وقد ترجم هذا الدور عمليًا عبر مؤسساتها التعليمية والدينية والإعلامية الرائدة، وعلى رأسها جامعة الأزهر الشريف، التي فتحت أبوابها منذ عقود للطلاب الوافدين، ومنهم الطلاب الأفارقة، وأسهمت في نشر قيم الاعتدال والتسامح، وخرجت أجيالًا من القادة والمثقفين والدعاة الذين غدوا جسورًا حية للتواصل وسفراء للتقارب المصري الإفريقي في بلدانهم يحملون لمصر في قلوبهم محبة ووفاء وامتنانًا.
كما أسهمت المراكز التدريبية والتقنية المتخصصة في استقبال وتأهيل الكوادر الإفريقية في مجالات متعددة، كالإعلام والتنمية والإدارة والهندسة والتعليم، مما ساهم في بناء الكفاءات والكوادر الوطنية وتعزيز القدرات المؤسسية داخل تلك الدول، ورسخ الدور المصري كركيزة للنهوض الإفريقي وشريكٍ أصيل في التنمية، فقد قدمت مصر الدعم من موقع الأخوة، وامتد عطاؤها من العقول والمبادئ إلى المؤسسات، إلى السياسات، فكانت ولا تزال شريكًا فاعلًا حاضرًا في صياغة مستقبل القارة، ومن رحم هذا الإرث النبيل، أضحت مصر وطنًا ثانيًا يحتضن آمال إفريقيا، ويجسد بعمقٍ إنساني وحدة المصير وتشابك التاريخ وتكامل الحلم الإفريقي المشترك.
وقد شهدت بعض العقود الماضية تراجعًا نسبيًا في الحضور المصري على الساحة الإفريقية، نتيجة الانشغال بتعقيدات الداخل وتحديات الإقليم الأخرى، مما أفسح المجال أمام قوى إقليمية ودولية للتغلغل في الفضاء الإفريقي، وبسط نفوذها عبر أدوات متنوعة، تراوحت بين الشراكات التجارية القائمة على استنزاف الموارد، والاصطفافات السياسية ذات الأجندات الخفية، وصولًا إلى أشكال جديدة من الهيمنة الناعمة والاستعمار المقنع، الذي يتدثر بخطاب التنمية والمساعدة الفنية، بينما يحمل في طياته تهديدًا لاستقلال القرار الإفريقي وللهوية والسيادة الوطنية، لذا بات ضروريًا أن تستعيد مصر مكانتها في إفريقيا، كشريك حضاري وتاريخي أصيل، يؤمن بأن نهضة القارة تصنع بالتكامل والتمكين والاحترام المتبادل.
وقد أدركت الدولة المصرية أهمية تصحيح المسار واستعادة الدور الفاعل لمصر في القارة الإفريقية، إدراكًا منها بأن استعادة هذا الدور يعد ضرورة تمس الأمن القومي المصري في عمقه الجنوبي الاستراتيجي، كما تمثل بوابة لتعزيز الشراكات الاقتصادية، وتوسيع نطاق التعاون الإقليمي في ملفات المياه، والطاقة، والبنية التحتية، والتكامل التجاري، كما أن هذا التوجه يعكس وعيًا عميقًا من القيادة السياسية، بأن مستقبل القارة يجب أن يبنى من داخلها عبر نماذج تنموية تشاركية تعالج جذور الأزمات مثل الفقر، والتهميش والنزاعات المسلحة والمشكلات البيئية والتغير المناخي ومواجهة محاولات الاختراق الخارجي والوصاية الجديدة التي تستهدف موارد القارة وهويتها، وفي ضوء ذلك تبلورت رؤية مصر نحو إفريقيا كفضاء استراتيجي للريادة والتنمية المشتركة.
وهذا الإدراك السياسي عكسه الحضور المصري المتنامي في المحافل الإفريقية، والزيارات المتكررة لرئيس الجمهورية إلى عواصم القارة، واستقباله لرؤساء الدول الإفريقية في القاهرة، وتوجيهه بإعادة تفعيل الدوائر الإفريقية في وزارات الخارجية والتعليم العالي والثقافة، وتوسيع المنح الدراسية للطلاب الأفارقة، وإرسال قوافل طبية وتعليمية وتنموية إلى الدول الإفريقية الشقيقة، كما أن مبادرة إنشاء مركز الاتحاد الإفريقي لإعادة الإعمار والتنمية ما بعد النزاعات، ومقره القاهرة، تشكل ترجمة عملية للرؤية المصرية في دعم الدول الخارجة من النزاعات، وتوفير بيئة مستدامة للسلام والتنمية بما يعيد لمصر موقعها الطبيعي كجسر حضاري وإنساني بين ضفتي القارة ومستقبلها.
وقد تبنت الدبلوماسية المصرية توجهًا استراتيجيًا متكاملًا، يستند إلى توسيع الحضور السياسي الفاعل، وتكثيف التعاون الاقتصادي، واستثمار أدوات القوة الناعمة التي تمتلكها مصر في ميادين التعليم، والصحة، والثقافة، وقد تجلى هذا التوجه في عودة مصر القوية إلى قلب القارة الإفريقية، وترؤسها للاتحاد الإفريقي وهي رئاسة مثلت علامة فارقة في تاريخ العلاقات المصرية الإفريقية، وشهدت حراكًا دبلوماسيًا دؤوبًا، من إطلاقًا للمبادرات التنموية، ودفع عجلة التكامل الاقتصادي، وتعزيز التعاون الأمني في مواجهة التحديات المشتركة كالإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة غير الشرعية، كما أولت مصر اهتمامًا خاصًا بتعزيز البنية التحتية العابرة للحدود، من خلال مشاريع الربط الكهربائي والطرق والممرات اللوجستية، بما يسهم في تحقيق التكامل الإفريقي، وتحويل القارة إلى كتلة اقتصادية متماسكة وقادرة على التفاوض من موقع الشراكة مما يؤسس لمستقبل أكثر أمنًا وتقدمًا للقارة بأسرها.
وتسعى مصر إلى تعزيز حضورها الاقتصادي في إفريقيا من خلال تفعيل اتفاقية التجارة الحرة القارية، التي وقعت في كيجالي، لتحفيز التجارة البينية وبناء سوق إفريقية مشتركة تقلل من الاعتماد على الأسواق الخارجية، كما تشارك مصر بفاعلية في مشروعات البنية التحتية العابرة للحدود، وفي مقدمتها مشروع طريق القاهرة – كيب تاون، الذي يجسد حلمًا إفريقيًا قديمًا لتحقيق الترابط والتنمية، ويهدف إلى تسهيل حركة السلع والاستثمارات، وخفض تكاليف النقل، وتعزيز التكامل الثقافي والسياحي، وقد نجحت الشركات المصرية، خاصة في قطاعات المقاولات والطاقة والاتصالات، في تنفيذ مشروعات استراتيجية في دول مثل أوغندا وتنزانيا وكينيا والكونغو الديمقراطية، مما يعكس ثقة متنامية في القدرات المصرية ويؤكد دورها كشريك تنموي موثوق في القارة.
وعلى صعيد الأمن المائي، فقد شكل ملف سد النهضة اختبارًا حقيقيًا للعلاقات المصرية الإفريقية ورغم تعقيداته، انتهجت مصر سياسة دبلوماسية رشيدة، قائمة على الحوار والتفاوض واحترام حق دول المنبع في التنمية، دون التفريط في حقوقها التاريخية في مياه النيل، وقد سعت إلى تدويل القضية في إطار القانون الدولي، مع الحفاظ على علاقات إيجابية مع محيطها الإفريقي، مما أكسبها احترامًا واسعًا من الدول الإفريقية التي واجهت ظروفًا مشابهة في قضايا الأنهار العابرة للحدود، ورسخ صورة مصر كدولة مسؤولة تدعو إلى التفاهم وتغليب مصلحة الشعوب.
وتمثل استعادة مصر لدورها الإفريقي عمقًا استراتيجيًا وامتدادًا طبيعيًا لرؤية تؤمن بأن الأجيال القادمة تستحق قارة موحدة، قادرة على بناء نماذجها الخاصة في التنمية والاستقلال والنهضة، لذا تواصل الدولة المصرية استثمارها في علاقاتها الإفريقية، برؤية أخلاقية وشراكة إنسانية طويلة الأمد، ولضمان مستقبل مستدام لهذه العلاقات، يصبح من الضروري ترسيخ ثقافة تربوية جديدة لدى النشء، تقوم على الإيمان بالهوية الإفريقية الجامعة، والانفتاح والتكامل، والتقدير العميق لقيم التنوع والتعاون. ويتطلب ذلك إدماج البعد الإفريقي في المناهج التعليمية، في التاريخ والجغرافيا، والأدب والفنون والاقتصاد والعلوم، بما يصحح الصورة النمطية عن القارة، ويغرس وعيًا إيجابيًا يدفع الطلاب إلى الانخراط في صياغة ورسم ملامح التعاون المستقبلي.
كما تعد الجامعات المصرية حاضنات مهمة لدوام التواصل العلمي والثقافي المستدام مع إفريقيا، من خلال التدويل الأكاديمي، والبحث المشترك، والبرامج متعددة اللغات بما يسهم في بناء جسور فكرية ومعرفية بين الأجيال، وتؤدي وسائل الإعلام والفنون دورًا فاعلًا في صياغة صورة جديدة للقارة الإفريقية، بوصفها فضاءً للنهضة والفرص والإبداع والكرامة الإنسانية، فالعلاقات المصرية الإفريقية تبنى بوعي الأجيال وعقول المفكرين وخيال المبدعين، وأخلاقيات وممارسات المربين ورجال الأعمال، ومن ثم تتحول الدبلوماسية المصرية الإفريقية لمشروع حضاري شامل، يستند إلى رؤية تنموية عادلة، وجسور من الفهم الوعي، والتكامل التربوي، والوعي التاريخي المتجدد، نحو قارة تنبض بالفرص وتقود مستقبلها بإرادتها الحرة.

Trending Plus