الوعى.. الحصن الأول والأخير والسلاح الذى لا يصدأ

كان يسير في الشارع مطرقًا رأسه، يستمع إلى حديث إذاعي عن أهمية الوعي المجتمعي في مواجهة الشائعات. توقف برهة عند المقهى، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يهمس لنفسه: "كل شيء يبدأ من هنا... من الرأس.. العقل أولا".. وفي لحظة تأمل صامتة، أدرك أن الوعي ليس شعارًا يُرفع، ولا كلمة عابرة في خطبة سياسية، بل هو العمود الفقري لحياة الأفراد والمجتمعات والدول، وربما لا نبالغ إذا قلنا إن هناك حضارات بُنيت بـ سلاح الوعي، وأخرى انهارت حين غاب أو تم تزوير الوعى المجتمعى.
الوعي ليس مجرد إدراك للأشياء، بل هو نظارة يرى بها الإنسان العالم من حوله، وله عدة أوجه، سياسي، وصحي، وديني، وبيئي، وثقافي، واجتماعي، وكل شكل منه يُكمل الآخر في رسم ملامح المجتمع، وفي دولٍ كثيرة لم يكن الطريق إلى النهضة مرصوفًا بالثروات، بل مر عبر طريق وعر ضحل اسمه "تشكيل الوعي"، ففي اليابان مثلًا، لم تقف بعد الحرب العالمية الثانية لتعد خسائرها وتبكى على الأطلال، بل وقفت لتُعيد تشكيل العقل الجمعي لشعبها، فقررت أن تبني الإنسان أولًا، وكان "الوعي" بداية الحكاية التى تزهل جميع دول العالم.
في مجتمعات أخرى، لا تزال تعاني من التخبط، يظهر "الوعي" بصور مشوهة، وقد لا يظهر على الإطلاق، فتجد من يرفض التطعيمات ويصدق إشاعة قاتلة على "فيسبوك"، وآخر يسب الدولة وأجهزتها المدنية والعسكرية، وهو لا يعرف حجم التحديات التي تواجه دولته، وثالث يستهين بقيمة صوته الانتخابي ثم يشكو من فساد ممثليه فى البرلمان، فالوعي ببساطة هو أن تعرف كيف تفكر ومتى تتكلم، ولماذا تؤمن بشيء ما، وأن تفهم الواقع دون تهويل أو تهوين، وأن تُدرك حقوقك وواجباتك، وأن تحترم المختلف دون أن تتنازل عن ثوابتك وقيمك.
في مواقف كثيرة، يظهر أثر الوعي بوضوح حين تندلع أزمة صحية كتفشى فيروس أو مرض، كما حدث في جائحة كورونا، نلاحظ أن المجتمعات الواعية استجابت بسرعة والتزمت بالتعليمات وتجنبت التهويل، ودعمت الأطباء، ووقفت أيضا إلى جانب الدولة وأجهزتها للسيطرة على الجائحة، بينما عانت المجتمعات الأخرى من الفوضى، والإنكار، بل والانقسام أيضا.
وعلى المستوى السياسي، فإن الوعي هو صمام الأمان للدول، والمواطن الواعي لا تجرّه الشائعات، ولا يهدم ما بُني بمجرد خلاف، بل يناقش ويعترض، ويصوّت، ويشارك، ويفعل ذلك كله بوعي كامل وليس كمجرد رد فعل، وهناك شكل آخر من الوعي لا يقل أهمية عما سبق هو الوعي الاقتصادي، ففي الدول المتقدمة تجد المواطن يعرف قيمة الوقت، الإنتاج، الالتزام، احترام القانون، ولا يُتلف ممتلكات عامة لأنها "ليست ملكه"، بل يرى فيها جزءًا من كيانه وهويته،
أما الوعي الزائف، فذاك وجه خطير للعملة، يظهر حين يظن الإنسان أنه مدرك للواقع بينما هو في فقاعة من التضليل، وهذا النوع لا يقود إلى بناء، بل إلى هدم، وهو أخطر من الجهل، لأنه يقدّم الباطل في ثوب الحق، وفتراه يدافع عن أفكار متطرفة، أو يؤمن بنظريات مؤامرة، أو يبرر العنف باسم الدين أو الوطنية، فصناعة الوعي مسؤولية مشتركة تبدأ من الأسرة، وتُصقل في المدرسة، وتُغذى عبر الإعلام، وتُوجَّه من خلال الكتاب والنخبة والمثقفين، ولا يمكن لدولة أن تنهض إذا تركت شعبها فريسة للجهل، أو ضحيةً لخطاب شعبوي أو ديني متشدد أو متطرف.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى ثورة وعي.. ثورة لا تهدم حجرًا، بل تبني فكرًا.. ثورة لا تصرخ في الشوارع، بل تفكر في العقول.. ثورة لا تخرب، بل تزرع، فالدولة التي تستثمر في عقول مواطنيها، تضمن لنفسها بقاءً طويلًا، فالوعي ليس رفاهية بل ضرورة، وهو الحصن الأول والأخير، والنور وسط الضباب، والبوصلة حين تتداخل الاتجاهات، وهو أيضا السلاح الذي لا يصدأ والجدار الذي لا يُخترق.

Trending Plus