لماذا نحتاج إلى الثقافة "12"

عندما كان "إسماعيل يس" سفيرا... القوى الناعمة المصرية من التربع إلى التراجع
يتناقل التاريخ شفاهة وقائع قد تبدو بسيطة لكنها تحمل في طياتها دلالات أعمق من كل خطاب سياسي. فيحكي لنا كيف كان جمال عبد الناصر في زيارة للمغرب وفي جولة بالسيارة إذا بمواطن مغربي يقتحم الحشود، لا ليطلب السلامَ على الرئيس، بل ليسأله أن يُسلّمَ له على "إسماعيل يس"!
هذه القصة التي قد نقابلها بابتسامة تلخص في جوهرها قيمة ما كانت تملكه مصر من قوة ناعمة، تتجاوز حدود الجغرافيا والسياسة.
لم يكن إسماعيل يس وحده سفيرا لمصر، بل كانت السينما المصرية، والأدب، والأغنية المصرية، والدراما، وحتى اللهجة العامية، بمثابة جوازات سفر شعبية تفتح القلوب قبل الأبواب.
كم مرة قيل إن العرب لم يتوحدوا على مر التاريخ إلا في ليلة الخميس الأول من كل شهر لسماع أم كلثوم، وكم مرة قيل فيها إن شوارع العاصمة العربية الفلانية كانت تخلو من المارة وقت عرض مسلسل ما، وكم مرة سمعنا مصريينَ في بلاد عربية وإفريقية وعالمية، يطلب منهم أحدهم أن "يحكوا مصري"، فقط ليشعر بأنه داخل فيلم أو مسلسل أحبه؟، وقد حدث هذا معي شخصيا في عدة بلاد عربية، ب حدث معي في كوناكري عاصمة غانا حين أصررت على زيارة الجامعة الرسمية هناك والتي أسموها جامعة جمال عبد الناصر وحين زرت مكتب رئيس الجامعة وجدت في صدارتها صورة وحيدة لجمال عبد الناصر على الرغم من أن الجامعة قد أنشئت في الثمانينيات.
هذه ليست مجرد حكايات شعبية؛ إنها دلائل على تغلغل ثقافي فريد من نوعه، صور مصر قبلة فنية وفكرية، ومصدرا لا يضاهى للإلهام والوعي.
لقد أدركت الدولة المصرية، في فترة ما، قيمة هذه القوى الخفية، وآمنت بأن الفن والفكر والإبداع، أدوات لا تقل قوة عن الدبلوماسية والجيوشِ، فكانت القاهرة منارة إقليمية وعالمية، يشكل مبدعوها الرأي العام العربي والإفريقي، ويعززون من مواقفِ مصر السياسية بلسان لا يمل الساسة من ترديده: "مصر هي قلب العروبة". وكان الاهتمام بتصدير واستغلال هذه العناصر الناعمة في كل المجالاتِ، من السينما إلى التعليم، ومن الفن إلى الرياضة، واضحا وملموسا.
ولكن، ما الذي حدث بعد ذلك؟
يبدو أننا أصبنا بداء النسيان، فقد قصرت المؤسسات المصرية، الرسمية وغير الرسمية، في حق هذه القوى العظيمة، فتراجعَ الدعم، وتشتتت الجهود، وغابت الرؤية الاستراتيجية، ولم تعد الجودة هي معيارنا الوحيد أو الأول، فتركنا الساحة شاغرة، لتجتاحها قوى ناعمة أخرى، تحمل ثقافات وأجندات قد لا تتفق دائما مع مصالحنا أو قيمنا، بل إننا تركنا قوانا نهبا فاستخدمها آخرون في دعم مواقفهم ورؤاهم، ولم يكن هذا التراجع مجرد خسارة فنية أو ثقافية؛ إنه إضعاف للموقف المصري على الساحتين الإقليمية والدولية، مهما كان هذا الموقف واضحا وقويا في بياناته الرسمية.
فكيف يمكن لصوت أن يصل إذا فقد صداه في قلوبِ الناس وعقولهم؟
لقد آن الأوان لتعود القوى الناعمة المصرية لسابق عهدها، بل لأفضلِ منه، فهي لا تزال تمتلك المقومات، من تراكم واضح، وقوى بشرية ما زالت تملك مواهبها، لكن العودة لا تكون باجترار أمجاد الماضي دون عمل، ولا بالعمل بطرق تقليدية لم تعد تناسب العصر.
إنها تحتاج إلى تكاتف كل القوى الإبداعية المصرية، من فنانين ومفكرين وكتاب وباحثين، مع دعم حقيقي ورؤية واضحة من الدولة والمؤسسات، وقبل ذلك كله تحتاج إلى نظرة الدولة إلى الثقافة والفنون عموما بوصفها سلاحا أصليا وليست مجرد هامش، وإلى المبدعين والفنانين والمثقفين بوصفهم خطوط دفاع عن هذا الوطن، لتعود مصر قلبا نابضا يصدر الوعي والجمال، لا مجرد بيانات سياسية، فالقوى الناعمة ليست رفاهية، لكنها ركن أساسي من قوى الوطن عموما إن وعينا ذلك.

Trending Plus