خالد دومة يكتب.. الحزن الصادق.. فلسفة الألم

خالد دومة
خالد دومة

إن في الألم آيات عجيبة، وصور لا تنتهي، تبرز لك ألوان كثيرة من حياة يشيع فيها الوجع في أركان الوجود، إن الألم الذي نشعر به، ونرى آثاره، دون أن نراه، وينهش فينا دون أن نستطيع قتله، أو حتى طرده، ونقف أمامه برءوس منحية، وقوى خائرة، ذلك الألم الذي يضعضع ويحرق دون لهيب، هو ما يستفز فينا قوى أخرى من المشاعر الإنسانية، التي تجعل للقلب عين يرى بها ما لا يراه المبصرون، ممن لم يتعرضوا لمثل هذه الألآم، وبقدر الألم ترتقي مدارج النفس في عوالم أخرى غير عوالمنا الأرضية، تعانق عالم ليس للجسد فيه كبير دور، إنما هو عالم تسطع فيه الروح، بعد أن أثقلتها الهموم من شوائب عالقة بالنفوس الضعيفة، التي تستعبدها وتقدم لها قرابينها يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، كأنها بضرباتها تهز الإنسان، فتنفصل عنه متاهات الوهم المتربصة به، تحيل بينه وبين الحقيقة القائمة خلف ستائر المتعة الزائفة.

إن الألم هو ذلك النار المنصهرة تشتعل في الجسد فتفنيه وتضيء روحه، بعد زوال الحجب، الألم الذي يعتصر، فيؤلم ويبقي الخلاصة في أصفى درجاتها، فهل للألم فلسفة، هل للألم رؤية فيما يفعل في الإنسان حين يشق بسكينه منافذ الرءوس، ليعيد هيكلة الإنسان على نحو أنقى وأصفى، وكلما أشتد أشتد الصفاء، وكلما تكالب أخرج من بين أوضارها الأفضل، وفي الجانب الأخر، فالألم وحش كاسر ضخم مدرع بأبشع الأسلحة، غير المرئية، الألم أسطول من الهواجس يقود جيشا لا حصر له، يغزو به ويشن حروب خفية، تمس كل ما هو باطن فتهوي عليه لتزعزع جذور فيروس يقتل في صمت، وينهش في بطيء، فيحيل الإنسان إلى كائن أجوف مفرغ من الداخل، يمحو ويقيم مملكته هناك حيث الدموع والبكاء الصامت وآهات مكتومة وصرخات في جوف بئر عميق لا صدى ولا معنى، أن يخط عالم نهاره ليل طويل وظلام لا ينقطع وشمسه سوداء محجوبة وأرضه تلال عالية يكسوها جليد شتاء عاصف متواصل، مدينة أشباح وكوابيس تتلاطم، إنه يصنع في النفوس مدائن أحزان، وخرائب ويرفع رايته الحالكة منتصرا في تدمير ما تجود به قريحته.

إن للألم رسائل قوية، ونتائج مذهلة، في تعكير صفو ما تلمسه يد الجمال، فترى بعينه القبح ماثل قائم بين يديك صرحا عظيما قويا ولكنه قد يهزم،  وأحيانا تراه ضعيفا أمام هؤلاء الذين حرموا من المشاعر وطغت أهواءهم على عقولهم وعواطفهم، وهم لا يبالون بالألم ويستهزؤن به، ولا يمثل لهم أكثر من عبوس ساعة، ثم يمضي كل شيء إلى حال سبيلة، هنا حيث لا تجدي فلسفة، ولا ينفع آي شيء أمام الأحجار الصلبة، التي خلقها الله بطبيعتها لا تشعر ولا تحس.

وماذا يفعل ذلك الألم في نفوس قتلتها الشهوة، وقادها الجسد والحواس، لم ترى إلا الهياكل الإنسانية مسلوخة من إنسانيتها لتبدو وجبة شهية أو زجاجة خمر أو مذاق ممتع يرتشفه، ماذا يصنع الألم في هؤلاء، وهم أشباح أدمية إنه يبحث عن هؤلاء، الذي يتعلمون مع الحياة قيم أخرى، لهم بصائر قبل أن يكون لهم بصر، يدركون بها أكثر مما يرون بأبصارهم، فيرون غير ما يرى غيرهم من الأشياء، يتحسسون بمشاعرهم مشاعر الأخرين ويتلقون بقلوبهم ما تحجبه الأبصار، فالألم هنا عاجز، لأن صوته يذهب سدى وأثره يضيع في بضع لحظات، فالألام لا تقترب من هؤلاء، إنما تحرمهم من الرؤية الحقيقة، ويطمس بحرمانه على قلوبهم كما طمس على أبصارهم، فيعيشون ويموتون وهم على هامش الموت والحياة.

فشكرا للألم إذا أبدع لنا جمهرة من أرقى النفوس تمدنا بالحياة الحقيقة والمعرفة الحقة، وتعطينا زادا وفيرا من معرفة الحياة، عاش الألم على أعتاب أصحاب النفوس الجميلة، والههم القوية، عاش بين الأدباء والفنانين، وأنتج لنا أدبا رفيعا، وفنا عميقا، يظهر لنا معنى الحياة الحقيقة، وأرانا أن العذاب نصيب الأوفياء، نصيب الأتقياء ممن يقدرون الحياة، وبحبونها في كل زي، وعلى أي جلد، المرهفون الحس، الغارقون في مشاعر الجمال، الذين تؤذيهم رؤية الضعف، وتكدر حياتهم المعاناة، التي تصيب أي كائن حي، إن الألم يتربص بهؤلاء وينتقيهم، ويلهبهم بعصا العذاب، يضرب بها مشاعرهم الدقيقة ورهافة إحساسهم المتناهية، ويظل على حاله حتى يفنيهم .... في الألم سعة من الحياة، ولكن في عالم غير العالم، تتسع لها أحداقهم، فهم ينالوا الشهادة في الدنيا، لينالوا الخلود في العالم الآخر.

فشكرا للألم الذي يجعل للحياة معنى، ويحفر في قلب الإنسان شعورا بالنفس، وشعورا بالأخرين، ولولا ذلك الألم لأنقطعت حبال العطف بين بين البشر، ذلك التيار الجارف الذي يؤسس للعطف، ويبني جدار تقوم عليه علاقات الناس كي تشعر بالحياة تدب في أوصالها.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

موضوعات متعلقة

خالد دومة يكتب: لغة الشباب 2

خالد دومة يكتب: لغة الشباب 2 السبت، 19 يوليو 2025 09:39 م

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

موعد مباراة الأهلى وسيراميكا فى الجولة الثانية بكأس عاصمة مصر

لأول مرة.. هدير عبد الرازق وطليقها أوتاكا في قفص واحد.. اليوم

الأمم المتحدة تعرب عن مخاوفها إزاء الأوضاع المتدهورة لعشرات الآلاف من المحاصرين فى الفاشر.. وتؤكد: معاناة مروعة للغاية والمصير المجهول.. ومسئول أممي: انقطاع شبكات الاتصالات يحول دون الوصول إلى الحقائق

مواجهة مونديالية بين السعودية والأردن في نصف نهائي كأس العرب 2025

موعد مباراة الزمالك ضد حرس الحدود فى كأس عاصمة مصر والقناة الناقلة


حالة الطقس اليوم الإثنين 15 ديسمبر.. انخفاض بالحرارة وأمطار غزيرة بهذه المناطق

علاء نبيل: هانى أبو ريدة صاحب قرار اختيار حلمى طولان ولم يتم إبلاغى برحيلى

تعرف على آخر تفاصيل عرض الأهلى لضم حامد حمدان

وزارة التعليم تحدد ممنوعات داخل المدارس بعد وقائع التعدى على الأطفال

عمر متولى ينعى والدته ويطالب الجمهور بالدعاء لها


تعرف على مصير أحمد الأحمد البطل الأسترالي مُنقذ ضحايا هجوم سيدني

وكالة الفضاء المصرية تُعلن نجاح إطلاق وتشغيل القمر الصناعي المصرى SPNEX

ترامب يشيد بالبطل الأسترالي أحمد الأحمد: أنقذ أرواحا كثيرة في هجوم سيدني

وفاة شقيقة الزعيم عادل إمام أرملة الراحل مصطفى متولى

حسن شحاتة يقضى فترة النقاهة داخل المستشفى

تحذير عاجل.. نوة الفيضة الصغرى تضرب الإسكندرية غدا والأمواج ترتفع 3 أمتار

فيفا يخطر اتحاد الكرة باختيار أمين عمر سفيراً فى معسكر حكام كأس العالم 2026

تحريات لكشف ملابسات العثور على جثة سيدة في العمرانية

بعد الهجوم الإرهابى..استخبارات أستراليا: مستوى التهديد يبقى عند درجة محتمل

ضبط المتهمين بإشعال النيران فى شخص أمام زوجته وإصابته بحروق خطيرة.. صور

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى