الكنيسة والثورة..موقف تاريخي في 23 يوليو يؤكد وحدة المصريين.. بيان البطريرك يوساب الثاني: نبارك النهضة المباركة.. رسائل متبادلة بين الأقباط والجيش: جسور ثقة تبنى الوطن.. ومكاسب للمسيحيين من قرارات تعزز المواطنة

فى لحظة فارقة من تاريخ مصر الحديث، حيث كان الوطن يتأهب لصفحة جديدة، ومع إعلان البيان الأول لثورة 23 يوليو 1952، لم تتأخر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن اتخاذ موقف وطني راسخ، لتؤكد بذلك على دورها الأصيل في نسيج الأمة المصرية.
وجاء موقف الكنيسة داعمًا للحراك الذي قاده الضباط الأحرار بقيادة اللواء محمد نجيب، في إطار ما وصفته حينها بـ"حركة الجيش الإصلاحية المباركة"، لتسجل بذلك شهادة تاريخية على تلاحم كافة أطياف الشعب المصري في سبيل التغيير والبناء.
بيان البطريرك: صوت الإيمان الوطنى
ولم يكن دعم الكنيسة مجرد تأييد صامت، بل تجسد في بيان رسمي صريح صدر عن قداسة البابا يوساب الثاني، البطريرك الـ115 للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، بتاريخ 27 يوليو 1952، حمل هذا البيان طابعًا دينيًا ووطنيًا رفيعًا، ليؤكد على القيم الروحية المتأصلة في خدمة الوطن. وجاء في نص البيان: "نصلي من أجل قادة هذه النهضة المباركة، ونطلب من الرب أن يُسدّد خطاهم لما فيه خير الوطن والمواطنين، وندعو جميع الكنائس إلى إقامة قداسات شكر وابتهال من أجل نجاح مصر في هذا الطريق الجديد."
هذا البيان لم يكن مجرد كلمات، بل كان دعوة للوحدة والعمل المشترك، انطلاقًا من إيمان الكنيسة بأن تقدم الوطن وازدهاره يصب في مصلحة جميع أبنائه.
القداسات والتأييد الشعبي: نبض الشارع القبطي
ولم يقتصر الدعم على البيان الرسمي فحسب، بل تبعه توجيه صريح من قداسة البابا لكافة الأساقفة والكهنة في عموم البلاد. نص التوجيه على إقامة صلوات شكر خاصة في الكنائس القبطية، تتضمن تسابيح وأدعية تضرعًا إلى الله بـ"الرحمة للوطن والنجاح لقادته". تحولت الكنائس إلى منارات للدعاء، تعكس آمال وتطلعات الشعب في مرحلة جديدة.
ولم يتوقف الأمر عند حدود الصلوات داخل الجدران المقدسة. ففي نفس الأسبوع، شهدت القاهرة مظاهرة شعبية قبطية عفوية ومؤثرة أمام مقر البطريركية في كلوت بك. شارك فيها رجال دين وأقباط علمانيون من مختلف الطبقات، رفعوا لافتات تؤيد الثورة بحماس، وتدعو صراحة لعودة "القيم الوطنية والوحدة المصرية". كانت هذه المظاهرة تجسيدًا حيًا للتأييد الشعبي الواسع الذي حظيت به الثورة من جانب الأقباط، وإعلانًا عن تطلعهم لمستقبل أفضل للوطن بأسره.
رسائل متبادلة: مد جسور الثقة بين الكنيسة والجيش
لم تمر هذه المواقف الوطنية دون تقدير من قيادة الثورة. ففي المقابل، بادر مجلس قيادة الثورة بإرسال برقية تهنئة من اللواء محمد نجيب شخصيًا إلى البابا يوساب. أعربت البرقية عن امتنان الجيش لموقف الكنيسة، وتضمنت تأكيدًا بالغ الأهمية بأن "جميع أبناء الوطن سواسية في ظل الجمهورية الجديدة". هذه الرسالة كانت بمثابة طمأنة وضمانة بأن الثورة جاءت لترسيخ مبدأ المواطنة الكاملة دون تمييز.
وجاء الرد من الكنيسة سريعًا، حيث بعثت مندوبًا رسميًا باسم المجمع المقدس لتسليم خطاب شكر إلى القيادة العامة للقوات المسلحة، لتؤكد بذلك على متانة العلاقة والثقة المتبادلة بين المؤسستين الوطنية والدينية.
مكاسب فورية: تعزيز الثقة والمواطنة
ولم تكن العلاقة بين الكنيسة والثورة مجرد تبادل للبيانات والتحايا، بل امتدت لتثمر مكاسب ملموسة عززت من شعور الأقباط بالمواطنة والانتماء. فعقب البيان التاريخي للكنيسة، جاءت الموافقة السريعة من قبل الحكومة الثورية على اعتماد خمسة أعياد قبطية كإجازات رسمية مدفوعة الأجر للعاملين بالدولة. هذه الأعياد شملت: عيد الميلاد المجيد، عيد القيامة، عيد الغطاس، خميس العهد، وأحد الشعانين.
لم يكن هذا القرار مجرد إجراء إداري، بل كان رسالة قوية ذات دلالات عميقة، تعكس تقدير الدولة للأعياد الدينية المسيحية كجزء لا يتجزأ من النسيج الوطني. وقد نشر هذا القرار في الجريدة الرسمية لتوثيق هذا الإنجاز. وأعلنت الكنيسة، في بيانات لاحقة، عن امتنانها العميق لهذا التقدير، واعتبرته "تقديرًا للوحدة الوطنية وقيمة المواطنة".
هذه الخطوة، وغيرها من الخطوات التي تلتها، رسخت مبدأ أن مصر بجميع أبنائها هي وطن واحد، وأن الثورة جاءت لتعزز هذا المفهوم، وتضمن حقوق الجميع دون تمييز. لقد كانت تلك اللحظة التاريخية شاهدًا على أن الوحدة الوطنية ليست مجرد شعار، بل هي واقع يُبنى بالمواقف الداعمة، وبالقرارات التي تصب في مصلحة الجميع، لتصنع معًا تاريخًا مشتركًا من الصمود والبناء.

Trending Plus