بيان ضد إسرائيل من قلب الناتو.. والبصمة مصرية

الانتهاكات المتواصلة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وتمادي حكومة بنيامين نتنياهو في إطالة الأمد الزمني والنطاق الجغرافي للصراع في الشرق الأوسط، ساهم في انتفاضة دولية، ربما غير مسبوقة، في وجه إسرائيل منذ نشأتها في أواخر الأربعينات من القرن الماضي، وهو ما تجلى في أحدث صوره في البيان الأخير الصادر مما يقرب من 30 دولة، للمطالبة بضرورة إنهاء الحرب التي تقترب من عامين، مما أسفر عن سقوط عشرات الشهداء والجرحى، ناهيك عما آلت إليه الأوضاع الإنسانية من حالة كارثية تبدو في المجاعة التي تهيمن على القطاع، وهو الأمر الذي يمثل طعنة نافذة إلى المنظومة القيمية، التي طالما أرساها النظام العالمي، منذ بزوغ الغرب كقوى موحدة بقيادة أمريكية، مع نهاية الحرب العالمية.
والملفت في البيان المذكور، ليس مجرد صياغته، أو إدانته الصارخة لممارسات الاحتلال الوحشية، وإنما في طبيعة الدول الموقعة، في ظل وجود 20 توقيع أوروبي، بالإضافة إلى كندا وأستراليا ونيوزلندا واليابان والاتحاد الأوروبي، وبالتالي فهو ليس بيانا عربيا أو إسلاميا للدفاع عن قضية الشرق الأوسط المركزية، وإنما في واقع الأمر صرخة من قلب المعسكر الذي قادته الولايات المتحدة لعقود، وعرف بانحيازه إلى إسرائيل على حساب الحق الفلسطيني، ناهيك عن كونه يمثل في جوهره أغلبية دول "الناتو"، المظلة العسكرية للمعسكر الغربي منذ الحرب الباردة، وهو ما يضفي الكثير من الأبعاد الإضافية لقيمة البيان، تتجاوز مجرد "شرعية" الموقف الداعي لإنهاء الحرب في غزة، أو حتى شرعية حقوق الفلسطينيين، نحو إعادة تشكيل النظام الدولي.
أهمية البيان، والذي أعلنته بريطانيا، وهو ما يمثل في ذاته مفارقة جديرة بالملاحظة، في ضوء خصوصية العلاقة بينها وبين إسرائيل من جانب والولايات المتحدة من جانب آخر، تعكس حقيقة مفادها انفراط العقد الغربي، إلى الحد الذي تعجز معه واشنطن، باعتبارها القيادة التاريخية للمعسكر، عن فرض رؤيتها، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى السياسات التي يراها قطاع كبير من حلفائها استعداء مباشرا لها، وعلى رأسها العودة لزمن التعريفات الجمركية، بالإضافة إلى الموقف المتراخي، من وجهة نظر أوروبا الغربية، تجاه روسيا فيما يتعلق بالأزمة مع أوكرانيا، وكلاهما يمثل انقلابا على ثوابت المعسكر، وبالتالي فإن الحالة الأشبه بالإجماع تجاه إسرائيل، بمثابة انقلاب مضاد، ليس فقط ضد أمريكا، وإنما أيضا ضد أحد أبرز ثوابت الغرب التاريخية، والتي تقوم في الأساس على دعم الاحتلال على حساب كافة الأطراف الأخرى في المعادلة الإقليمية.
التغيير في مواقف المعسكر الغربي تجاه القيادة الأمريكية، فيما يتعلق بالحرب على غزة، سبقته عدة إرهاصات، ربما أبرزها التحركات الأحادية التي اتخذتها عدة دول أوروبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وعلى رأسها إسبانيا، دون تشاور مسبق مع واشنطن، بالإضافة إلى تقاربات أوروبية مع عدة أطراف دولية، من بينهم خصوم الولايات المتحدة، على غرار الصين، ومواقف تحمل قدرا من الاستقلالية تجاه إيران، وهو ما يمثل توجها صريحا نحو منحى جديدة في العلاقة بين واشنطن والقطاع الأكبر من حلفائها، لا تقوم على العداء المباشر، ولكن ستحمل في طياتها علاقة "الند بالند".
ولو تحدثنا عن البعد "الانقلابي" في سياسات الغرب تجاه غزة، في إطار حالة من التمرد على القيادة الأمريكية، نجد أن ثمة بعدا آخر، يدور حول ضرورة الاحتفاظ بما يمكننا تسميته بـ"الشرعية الأخلاقية"، خاصة بعدما تخلت عنها الولايات المتحدة، بعد عقود من التذرع بحقوق الإنسان، والديمقراطية، وحرية الرأي، وغيرها من المبادئ، والتي كانت مجرد ذريعة للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وإجبارها على الدوران في الفلك الأمريكي، وبالتالي فإن البيان فرصة سعت الدول الموقعة على البيان نحو اقتناصها، لتقديم نفسها في صورة القوى القادرة على سد الفراغ الأخلاقي الناجم عن الانسحاب الأمريكي، خاصة إذا ما تعلقت القضية المثارة بحياة ملايين البشر، الذي يعانون ويلات القصف والجوع والتشرد، جراء حرب طويلة المدى، تمارس فيها أبشع الانتهاكات.
ولعل الحديث عن التغيير الكبير في مواقف الدول الموقعة على البيان، وما يضفيه من شرعية على الحق الفلسطيني، يسلط الضوء على الدور الكبير الذي لعبته الدبلوماسية المصرية، والتي نجحت في تقديم نموذج استثنائي من التوافقات الدولية، حول أحد أعقد القضايا في النظام العالمي، سواء في تاريخه أو حاضره، وقدرتها على تحويل هذه التوافقات إلى حالة أشبه بالإجماع، وهو ما يبدو في مواقف إسبانيا، والتي استبقت اعترافها بدولة فلسطين، بالإعلان عنه من أرضها، خلال مؤتمر صحفي لرئيس وزرائها بيدرو سانشيز من أمام معبر رفح، بينما تبنت شراكة مع الاتحاد الأوروبي، لعبت دورا رئيسيا في تعزيز رؤى القاهرة تجاه القضية داخل القارة العجوز، بالإضافة إلى علاقاتها القوية مع قوى أوروبا التقليدية، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا، وتأثيرها في مختلف مناطقها الأخرى، عبر اكتشاف ما يمكننا تسميته بـ"البؤر الميتة"، في دوائرها الدبلوماسية، عبر خلق العديد من الشراكات، وعلى رأسها الشراكة مع اليونان وقبرص، والتقارب الكبير مع مجموعة فيشجراد، في أوروبا الشرقية.
فمنذ انعقاد قمة القاهرة للسلام، بعد أقل من أسبوعين من اندلاع الحرب في غزة، وحتى البيان الأخير، انقلبت المواقف الأوروبية رأسا على عقب، من التذرع بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مرورا بالإدانة، حتى سلسلة من الاعترافات الأحادية بدولة فلسطين، وانتهاءً بـ"إجماع" صارم على ضرورة إنهاء الحرب، وهو ما يمثل امتدادا لجهود أخرى، تمكنت من خلالها الدولة المصرية من حشد قوى تبتعد جغرافيا عن محيط الصراع، لتتشابك معه، عبر خطوات قوية وعملية، على غرار جنوب إفريقيا، والتي رفعت دعوتها القضائية ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية.
البيان الصادر عن أكثر من 25 دولة، لوقف الحرب في غزة، يمثل طفرة كبيرة، ليس في إدارة الصراع، وإنما في واقع الأمر، في إدارة العملية التفاوضية، في إطار الوساطة التي تقودها مصر وقطر جنبا إلى جنب مع الولايات المتحدة، حيث يمثل ورقة ضغط مهمة على أطراف الصراع، وبالأخص إسرائيل، للرضوخ إلى رغبة المجتمع الدولي، بإنهاء الاقتتال، وهو ما يعكس أهميته البالغة، ليس فقط لإنهاء الحرب، وإنما أيضا فيما يضفيه من تأثير على أي مفاوضات مستقبلية.
وهنا يمكننا القول بأن الحرب في غزة وإن ساهمت في تغيير جزء كبير من بنية الشرق الأوسط السياسية، بعدما تركته من تداعيات كبيرة، سواء فيما يتعلق بإعادة هيكلة الكثير من القوى الإقليمية، إلا أنها تبدو علامة فارقة في النظام الدولي برمته، في إطار مساع واضحة لقوى بعينها نحو أدوار أكبر وأكثر استقلالية في المشهد الدولي، بينما تسلط الضوء في الوقت نفسه على الدور الذي لعبته القوى العربية الفاعلة، وعلى رأسها مصر، في إدارة قضيتها المركزية، لتعيد القاهرة تثبيت مكانتها كفاعل رئيسي في لحظة إعادة تعريف النظام الدولي، لا بوصفها مجرد طرف إقليمي، بل كقوة قادرة على صياغة الإجماع.

Trending Plus