ثقافة العولمة.. وثقافات الشعوب (مفارقات وتساؤلات)

حسين حمودة
حسين حمودة
حسين حمودة

إذا كانت العولمة ظاهرة قديمة، بدأت مع عصر التجارة العالمية منذ عدة قرون، فإن الجديد فيها، خلال العقود الأخيرة، يتعلق بسرعتها المتناهية التى تأكدت بجلاء خلال السنوات الأخيرة من القرن العشرين وأوائل هذا القرن.. كما يتصل بشموليتها، وبارتباطها بمركز غربي واحد، وبقيادة دولة واحدة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، لهذا المركز (وإن كان هذا الوضع قد بدأ في التغير أخيرا).. ويتصل طبعا بمحاولة هيمنة ثقافة هذا المركز على ثقافات العالم الواسع كله..

وهناك مجموعة من التساؤلات والمفارقات تتعلق بثقافة وإبداع مركز العولمة (الغربي عموما، والأمريكي بوجه خاص) وعلاقة هذه الثقافة وهذا الإبداع بثقافات وإبداعات الشعوب، التي كانت وظلت لفترات طويلة، تتسم بخصوصيات متنوعة، تتمايز من بلد لآخر، ومن مجال جغرافي لآخر.

ينطلق بعض هذه التساؤلات والمفارقات من أن الثقافة التي تسعى إلى الهيمنة، إنما تحاول أن تجتاح ثقافات أخرى، شكَّلها وصاغها ونمَّاها موروثُ قديم، طويل ومتراكبُ، لم تنف فيه أي حقبة الحقب السابقة عليها.. وأن هذه الثقافة التي تسعى إلى الهيمنة تفتقر إلى مثل هذا الميراث الذي تمتلكه شعوب كثيرة... وليس هذا مرتبطا، فحسب، بقصر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بل هو متصل كذلك بطبيعة العلاقة المعقدة التي قامت، تاريخيا، بين ثقافة الفاتحين، المستكشفين (من منظور آخر: الغزاة) الأوربيين وبين السكان الأصليين الذين كانوا يستوطنون ما سمى بالعالم الجديد، وقد قامت هذه العلاقة على النفي والاستبعاد.

ومن هذه المفارقات أن البلد الذي تنتمي إليه الثقافة التي تسعى إلى الهيمنة، يمثل نموذجا خاصا لشكلٍ من أشكال التعدد الثقافي يكاد يشارف حدود "غياب الهوية" الثقافية. لكن رغم هذا التعدد، من ناحية، وهذا الغياب، من ناحية أخرى، فهناك اتجاه ثقافي ما، محدد بعينه، يطل من بين المستويات المتعددة في هذه الثقافة، وهناك عمل على إشاعة هذا الاتجاه، أو على نشره وتسييده، بوصفه نموذجا وحيدا يجب الاحتذاء به، في أنحاء العالم.

ومن هذه المفارقات أن القوة التي تحاول أن تفرض "ثقافتها" على العالم منذ عقود، إنما تعترف بالحرية الفردية أكثر مما تعترف بالحرية الجماعية؛ فهي تحترم حقوق الفرد القانونية أكثر مما تحترم حقوق الجماعات والشعوب. و"الحرية الثقافية، على خلاف الحرية الفردية، هي حرية جماعية". كأن هذه القوة تقر بحقوق الفرد الإبداعية، وبحريته في التعبير، ولكنها تعمل على أن تسوق الجماعات باتجاه تلقي نموذجها الثقافي/الإبداعي، والاقتداء به أو تقليده.. وهي في هذا مدفوعة بمبررات ينطوي عليها مفهوم "الحضارة العالمية" نفسه، وهو مفهوم (باعتراف صمويل هنتنجتون، أحد محللي علاقات العالم الجديد، وأحد المختزلين لتعقدات هذه العلاقات، وربما أحد مسطّحيها، في آن معا) "يساعد على تبرير بسط السيطرة الثقافية الغربية على المجتمعات الأخرى".

وأيضا، من مفارقات هذه الثقافة، المدفوعة بأدوات العلم الحديث، المنتشرة بمنجزاته العلمية والعقلانية، أنها قائمة على علاقات معقدة، وضمن هذه العلاقات (فيما يحلل بيتر جران) "تحفيز الخرافات والنزعات الأخروية".

داخل دائرة الثقافة المهيمنة أو التى تسعى إلى الهيمنة، ثمة مجموعة من التناقضات المتصلة بإمكان "تمثيل" أو "تكوين" الثقافات الغربية المتعددة، ثم المتصلة بـ"حراك" هذه الثقافات؛ على مستوى الاحتكاك والتفاعل، أو حتى على مستوى "الصراع".. حيث تتراجع حركات وأشكال ثقافية وإبداعية جزئية، وتظهر أخرى أو تطفو على السطح، ويغيب معني التراكم المتصل الذي يمكن ملاحظته في دوائر ثقافات أخرى أكثر استقرارا.. ثم خلال هذا كله، أيضا، تتوارى (بمنطق "الصرعات" أو "الموضات" المتلاحقة، سريعة التغير) تجارب إبداعية لتظهر أخرى، في تسارع مسيَّر بقوة عاتية، يصعب إيقافها أو السيطرة عليها.
***

.. ما الذي يمكن أن "يبقى"، أو أن يستمر ويتنامى، من هذه الثقافة المركبة، متصارعة العناصر، متغيرة الملامح؟

.. ثم ما الذي يمكن أن يتسيد أو يهيمن، فى عالمٍ نحن جزء منه، مما "يبقى" من هذه الثقافة؟

.. وكيف تؤثر هذه الثقافة، فقيرة الميراث، في ثقافات أخرى غنية بميراثها، ثم كيف تؤثر في إبداعات هذه الثقافات؟ (وضمن هذه الإبداعات، بالطبع، إبداعاتنا العربية، المتنوعة والغنية؟).

هذا النوع من التساؤلات، المبني على هذه المفارقات، بحاجة إلى تحليل  وإلى بحث عن إجابات.. وقبل هذا، وبعده، بحاجة إلى التفكير في أشكال من المقاومة، وفي طرائق للتمسك بخصوصيتنا الثقافية والإبداعية.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

مصر تعود لقلب أفريقيا.. تخصيص 5 آلاف فدان لمزارعين مصريين فى كينيا.. اتحاد العمال يطلق مشروعا زراعيا مصريا ضخما فى نيروبى.. عيد مرسال يكشف: تسهيلات لسفر العمال وتأمينهم ومتابعتهم دون أى عائد مادى للنقابة

عمر مرموش يتصدر أغلى اللاعبين الأفارقة في الدوري الإنجليزي الموسم الجديد

مواعيد قطارات خط القاهرة أسوان والإسكندرية والعكس اليوم الجمعة 15-8-2025

قوات الاحتلال تقتحم مدينة قلقيلية فى الضفة الغربية

"بوليتيكو": أوروبا تتأرجح بين الأمل والخوف مع لقاء ترامب وبوتين


القوى والفصائل الفلسطينية : الأولوية في الوقف الفوري للعدوان الإسرائيلي ورفع الحصار عن قطاع غزة

موعد مباراة الأهلى أمام فاركو اليوم الجمعة فى الدوري المصري والقناة الناقلة

عبد الرحيم دغموم رجل مباراة المصري وطلائع الجيش بالدوري

مواعيد عرض "بتوقيت 2028" ثانى حكايات مسلسل ما تراه ليس كما يبدو

كريم محمود عبد العزيز ينفى شائعة انفصاله عن زوجته


لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى