ثورة 23 يوليو.. لحظة فارقة تعيد تشكيل الوعي

يمضي التاريخ في مساراته ونجد به العديد من اللحظات الفارقة التي تعيد تشكيل وعي الشعوب، وتؤسس لعهود جديدة، وتقاس بها مكانة الدول وقيمتها بين الأمم، وتمثل ثورة 23 يوليو 1952 في مصر واحدة من تلك اللحظات التي تجاوزت حدود التغيير السياسي، لتصبح فعلًا وطنيًا مؤسسيًا أعاد بناء الدولة المصرية على أسس جديدة من الاستقلال والسيادة والعدالة الاجتماعية، وكانت الثورة تعبيرًا صادقًا عن إرادة شعب أنهكه الاستعمار، وأضناه الفساد، وضيقت عليه الولاءات المتنافرة الخناق بفعل تدخلات القصر ومصالح الاستعمار، ومن هذا الركام بزغ فجر الثورة ليعيد بناء الهوية ويطلق مشروعًا وطنيًا جامعًا.
وأعادت ثورة يوليو الاعتبار لمفهوم الدولة الوطنية التي تستمد شرعيتها من إرادة الجماهير، وأطلقت مشروعًا تحرريًا جامعًا امتد صداه إلى أرجاء العالم العربي وأفريقيا، وألهم حركات الاستقلال في كثير من الشعوب المستعمرة، وكان الجيش المصري بقيادة الضباط الأحرار التمثيل الحي لانتماء المؤسسة العسكرية لنبض الشعب، ومن قم أصبح الجيش حارسًا للسيادة، ودافعًا للتنمية وشريكًا في بناء الدولة الحديثة.
وجاء تحرك الضباط الأحرار في 23 يوليو 1952، تعبيرًا عن وعي وطني مكتمل، ونداء صادر من أعماق الشعب المصري لاستعادة الدولة من براثن الاستعمار والفساد والتبعية وإعادة بناء منظومة سيادة حقيقية تستند إلى شرعية شعبية؛ فصار لزامًا استردادها، وإعادة بنائها على أسس جديدة تعكس هوية الأمة وحقوق المواطنين وتطلعاتهم، وقد تمثل جوهر هذا المشروع الوطني في إعادة صياغة مفهوم السيادة بمعناه الأشمل، ومن العدالة الاجتماعية ركيزة للاستقرار، ومن الكرامة الوطنية أساسًا للعزة والنهضة، وهذا هو الهدف الاسمي للثورة والبعد الجوهري الذي ميزها عن غيرها من التحولات السياسية في تاريخ المنطقة.
ورسمت الثورة ملامح الدولة من جديد، على أسس من الاستقلال السياسي والتحرر الاقتصادي والتماسك الاجتماعي، فكان الإنسان المصري بحقه في التعليم، والعمل، والكرامة محور المشروع الوطني الذي تبنته الثورة، وجاء هذا التحول نتيجة طموح تمثل في سلسلة من الإجراءات الجوهرية التي أعادت بناء الدولة فحرصت على طرد الاحتلال البريطاني، وإلغاء النظام الملكي، وتأميم قناة السويس في ملحمة سيادة خالدة، وبناء السد العالي كمشروع تنموي استراتيجي، وتوزيع الأراضي الزراعية لتحقيق العدالة الريفية، وتأسيس قاعدة صناعية وطنية، وتأميم البنوك والشركات الأجنبية لضمان السيطرة على مفاصل الاقتصاد واستقلال القرار الاقتصادي لتحقيق الاكتفاء الذاتي والتنمية الشاملة.
ولقد أدركت القيادة الثورية منذ اللحظة الأولى أن حماية الدولة تبدأ من حدودها ومن تماسك نسيجها الاجتماعي، وشعور مواطنيها بأنهم شركاء في الثروة والكرامة والقرار، ومن ثم ربطت ثورة يوليو ربطًا عضويًا بين الأمن القومي وبناء القوة العسكرية وتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة، ومن ثم انطلقت الثورة من قناعة جوهرية بأن المجتمع الذي يهمش، ويقصى، ويترك فريسة للفقر والجهل، هو مجتمع قابل للتفتت، وعاجز عن حمل مشروع وطني مستقر، لذلك جاءت سياسات الثورة لتضع الأساس لبناء دولة متكاملة الأركان، يبدأ من بناء الإنسان، وإنشاء المصانع والمدارس والجامعات والمستشفيات، وتوسيع قاعدة التمكين الاجتماعي والاقتصادي، كأساس من عقيدة الأمن القومي.
وتعد مصر على الصعيد الخارجي صاحبة مشروع تحرري عابر للحدود، امتد إلى العالم العربي وإفريقيا، كما شكلت الثورة مصدر إلهام لحركات التحرر الوطني، وبوصلةً سياسية للشعوب التي كانت تناضل ضد الاستعمار، حيث دعمت مصر حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وساهمت في إسقاط أنظمة استعمارية طالما نهبت المقدرات، وساندت الدول بالفعل السياسي والدعم الميداني، ورفضت الاصطفاف الأحادي في سياق الحرب الباردة، مؤسسةً لحركة عدم الانحياز مع زعماء كبار في محاولة جريئة لحماية استقلال القرار الوطني وتحصين الإرادة السياسية من سطوة المعسكرات الكبرى.
ونتيجة لذاك دفعت مصر ثمنًا باهظًا لهذا الخيار المستقل حوصرت اقتصاديًا، وهاجمتها قوى كبرى، ودخلت في صراعات إقليمية ودولية معقدة، لكنها في المقابل كسبت ما هو أثمن مكانة فريدة في الضمير العالمي، وصورة ذهنية لدولة لا تركع، ولا تبيع قرارها، ولا ترتهن لإملاءات الخارج، مهما كان الثمن، وهكذا فتحت ثورة يوليو أفقًا جديدًا لتطوّر الدولة المصرية كفاعل مستقل في محيطها العربي والأفريقي والدولي انطلاقًا من منطق السيادة والمبادئ والتوازن.
ولم يأخذ الشعب المصري استراحة محارب بعد ثورة يوليو، ولكن واجهه امتحانًا مستمرًا لفكرة الدولة ذات السيادة، فدخلت مصر مرحلة جديدة من الصراع على هوية الدولة واتجاهاتها، وكان على المصريين أن يتعلموا من قلب الممارسة والتجربة كيف تبنى الدول وكيف يتحول الاستقلال السياسي إلى مشروع وطني قابل للاستدامة، فحماية الدولة يتحقق بتحصين الداخل من الاختراق، والتماسك المجتمعي وبناء وعي جمعي يؤمن بأن الانتماء موقفًا وعملًا واستعدادًا للتضحية.
وتتقاطع دروس ثورة يوليو مع التحديات الراهنة التي تواجه الدولة المصرية، وقد شكل عام 2011 لحظة اختبار كبرى، حيث تعرضت مصر لهزة سياسية واجتماعية عنيفة سمحت لقوى الظلام والفوضى باختراق المشهد والعبث بمصير الدولة، ولولا يقظة الجيش وصلابة مؤسسات الدولة، ووعي الشعب المصري الذي استعاد بوصلته في اللحظة الحرجة، لكانت الدولة المصرية اليوم تعاني بشدة، ومن ثم فقيم ثورة يوليو تمد الدولة المصرية بعناصر المناعة، والصمود، والقدرة على التجدد، وتمثل خط الدفاع الأول في مواجهة التحديات، وتبقى حجر الزاوية في أي مشروع وطني يستهدف البقاء والتقدم.
واضحت حماية الدولة في عالم تتداخل فيه الحروب التهديدات من إرهاب عابر للحدود، وحروب الجيل الرابع والخامس، وسلاح الشائعات والمعلومات المضللة، مرهونة بقدرة الدولة على حماية الوعي وتعزيز الحصانة المعرفية وتجديد العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة على أساس من الثقة والمشاركة والمسؤولية، حيث أصبحت معركة الوعي هي جبهة الدفاع الأولى مدعومة بجبهة داخلية متماسكة.
وتخوض الدولة المصرية اليوم مشروعًا وطنيًا، يؤسس لجمهورية جديدة تربط بذكاء بين الماضي، والحاضر، والمستقبل المنشود، ففي قلب هذا المشروع الوطني تتقدم الدولة بمشروعات قومية كبرى تعيد تشكيل الجغرافيا السكانية والاقتصادية، وتستعيد الدور الإقليمي لمصر باعتبارها قوة توازن في المنطقة، وتعزز من قدراتها العسكرية كضامن للأمن القومي، وتشيد منظومة حماية اجتماعية أكثر شمولًا وعدالة، فحماية الدولة مسؤولية ممتدة تاريخيًا ومعرفيًا، تتطلب وعيًا يقظًا، ومواطنًا فاعلًا ومؤسسات راسخة وأمنًا حاميًا للحدود وحارسًا للقيم وللمصالح الوطنية.
وتعد ثورة 23 يوليو مشروعًا تحرريًا للدولة المصرية، والدفاع عن منجزات تلك الثورة يكون بترسيخ معناها في سياسات الحاضر واستراتيجيات المستقبل، فكما حمت مصر نفسها من الاستعمار العسكري، فإنها مدعوة اليوم لتحمي نفسها من استعمار من نوع آخر، استعمار رقمي، وهيمنة اقتصادية، وتغيب ثقافي، واغتراب قيمي، تلك هي معركة العصر، معركة الوعي والهوية والسيادة، وتلك هي أمانة يوليو التي تنتظر من الأجيال الجديدة أن يحملوا لواءها ويكملوا المسيرة، بوصفها مسؤولية تستدعي الفهم والتجديد والوفاء بروح الثورة.
___
أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر

Trending Plus