سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 25 يوليو 1974.. وفاة الدكتور نجيب محفوظ رائد علم أمراض النساء والولادة بمصر وطبيب الفقراء الذى أحب أن ينفع الناس وينشر الخير عليهم ورفض مائة فدان رشوة لتزوير نسب طفل

حين توفى الدكتور نجيب محفوظ، رائد علم أمراض النساء والولادة فى مصر يوم 25 يوليو، مثل هذا اليوم، 1974 كان عمره 92 عاما، فجعله هذا العمر الممتدد شاهدا على مصر التى عاشت غارقة فى الجهل والتخلف والمرض، ثم شاهدا عليها وهى تبحث عن نفسها بمحاولات الخروج من هذا الثالوث الذى عاش المصريون فيه قرونا ودفعوا ثمنه فادحا.
كان وفقا لجريدة الأهرام يوم 26 يوليو 1974 إلى جانب ريادته فى أمراض النساء والولادة «صاحب الشهرة العالمية فى أبحاث عملية فى البلهارسيا والأمراض الليفية، والأورام، والحمل خارج الرحم، ومن أهم مؤلفاته «موسوعة علمية عن أمراض النساء والولادة فى 3 مجلدات تضم خبرة 50 عاما من حياته كطبيب».
فى سيرته «حياة طبيب»، يذكر عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين فى مقدمتها: «أصبح لا يقاس إليه متخصص فى فن الولادة فى الشرق العربى كله، يؤلف عن تعليم الطب فى مصر بالإنجليزية، ثم يؤلف فى فن الولادة نفسه، وتعبر شهرته البحر والمحيط، فإذا هو فى إنجلترا فى بيئتها العلمية، وفى فرنسا وسويسرا، وإذا هو يدعى لإلقاء المحاضرات فى بلاد الإنجليز ويتاح له فى ذلك نجاح أى نجاح، ثم يدعى إلى المحاضرة فى جنيف، ثم يصبح فى بلاد الإنجليز ممتازا معروفا بالامتياز كأكبر الأطباء فى تلك البلاد، علَم فى كلية الطب حتى أهدى إلى وطنه طائفة ضخمة من الأطباء، فلما ترك التعليم فى كلية الطب فرغ لمهنته مقبلا عليها مشغوفا بها لا لشىء إلا لأنه يحب أن ينفع الناس، وينشر الخير عليهم نشرا».
ولد فى المنصورة يوم 5 يناير 1882 أى قبل احتلال مصر بنحو ثمانية أشهر وعشرة أيام، وكان ضمن عشرة فقط تخرجوا من مدرسة الطب فى يناير 1903، وفقا لمذكراته التى يكشف فيها أنه فى السنة النهائية لدراسته عام 1902 تم تعيينه للعمل فى محطة القاهرة للسكة الحديدية، لكنه طلب نقله إلى قرية «موشا» بديروط، أسيوط، لمقاومة وباء الكوليرا فيها والقرى المجاورة، وتعجب رئيس مصلحة الصحة الإنجليزى من إصراره على السفر فى نفس اليوم الذى تمت فيه الموافقة على طلبه، قائلا له: «أواقع أنت فى غرام يائس تتعجل بسببه الموت؟، فرد عليه: «غرامى الأول والأخير هو القيام بالواجب، وأنى أتطوع لمكافحة الوباء، كما يتطوع الجندى للذود عن وطنه».
نجح فى مهمته بأسيوط، وقام باستكمالها فى الإسكندرية، وبعدها تخرج عام 1903، ويشهد أن البيئة كانت غير مواتية لمهنة الطب للمصريين، قائلا: «لا أنسى حكمة قالها لى فى تلك الأيام زميلى الجراح الكبير على باشا إبراهيم، وهى الجو قاتم يا محفوظ، وعلينا أن نشق طريقنا بأيدينا، وإلا ضعنا»، ويوضح هو سر هذه القتامة، قائلا: «فى العهد الذى تخرجنا فيه، لم يكن المصرى يثق بأخيه المصرى، أو يؤمن بكفايته فى العمل، وكان الطبيب الأجنبى موثوقا به، مرموقا بعين الاحترام، مهما تكن درجته من الكفاية، مادامت جنسيته غير مصرية».
يتحدث بأسى عن البيئة الاجتماعية السائدة فى مصر وقتئذ قائلا: «البيئة الراقية كانت وقتئذ تتألف من طوائف ثلاث، طائفة الجاليات من البلاد الغربية، وطائفة المتصمرين الذين نزحوا من البلاد الشرقية وبخاصة لبنان، واحتل هؤلاء معظم المناصب الكبيرة فى المصالح الحكومية، وطائفة الأثرياء من أصحاب الضياع، وأغلبهم من سلالة الأتراك والجراكس والأكراد والمماليك الذين حكموا مصر زمنا مديدا، وأذاقوا أهلها الويل، واستولوا على خيراتها ومرافقها، فلم يبق فى أيدى المواطنين المصريين من أرضهم إلا ما اشتراه بعضهم من الحكومة عند تصفية «الدائرة السنية»، وهذه الطوائف الثلاث كانت تنظر إلى المصريين نظرة ازدراء، ولا تراهم أهلا لغير التافه من الأعمال».
يكشف: «لم يكن عدد الأطباء الأجانب فى تلك الأيام بالقليل، وكان بينهم أطباء مهرة أكفاء، ولكن أغلبهم كانوا من الجهل بمكان، ومنهم كثرة من المتطببين الذين يمارسون المهنة دون أن تكون بيدهم مؤهلات رسمية، وكانت الامتيازات الأجنبية تحميهم، وتشل سلطة الحكومة إذا أرادات منعهم من العمل».
يرجع إليه الفضل فى تأسيس قسم بالعيادات الخارجية لأمراض النساء فى «قصر العينى» وذلك لأول مرة منذ عهد «كلوت بك» مؤسس مدرسة الطب فى مصر، ويذكر أنه لم يمض وقت طويل حتى كانت الطبقات الفقيرة تدعوه إن تعسرت ولادتهن فى منازلهن، فكان يستجيب دون الحصول على أجر، وأصبح يؤخذ رأيه من الوجهة الطبية الفنية البحتة أمام المحاكم فى القضايا التى تتعلق بالنسب، ويكشف أنه عرض عليه فى إحداها رشوة بمائة فدان نظير شهادته بنسب طفل زروا لأب متوفى، ولجأت أمه إليه فى نزاعها مع الزوجة الأولى، لكنه رفض، فى عام 1959 حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم».

Trending Plus