كيف تعيش إكلينيكيا.. سؤال فلسفى فى عرض كوميدى

ربما تكون المرة الأولى التى أسمع فيها أن هناك إنسانا "عايش إكلينيكيا" وليس ميت إكلينيكيا (أى توقفت أجهزة جسمه ولا يتبقى إلا طلوع روحه).
وهنا تأتى الدهشة من عنوان العرض المسرحى الذى يعرض على مسرح الهناجر، ويشارك حاليا ضمن العروض المشاركة فى مسابقة مهرجان المسرح القومى، وهو ما يدفع إلى الاستعداد والتحفز لمشاهدة عرض غير عادى أو تقليدى بداية من اسمه المحرض على السؤال الفلسفى الكبير، والذى يتردد فى كثير من الأحيان على ألسنة عدد كبير من البشر عند سؤاله عن أحواله فى الدنيا، فتأتى الإجابة المدهشة التى تختزل التفسير والتبرير الكثير: "أهو عايش".. "لسة عايش".
منذ البداية أنت أمام عرض يبدو فلسفيا -وهو كذلك بالطبع- لكنك لن تستطيع التوقف عن الضحك والمتعة والبهجة والسرور قبل أن تسدل الستائر فتجد نفسك تفكر بعمق فى الإجابة الفلسفية الحائرة: "هل نعيش إكلينيكيا بالفعل وكيف نعيش فى هذه الحالة -التى عاشها (صابر)، الفنان مصطفى حزين بطل العرض- ولاحظ دلالة اختيار الاسم كإنسان منسحق ومتعب ومرهق ومهزوم فى حياته العملية والشخصية وحتى فى محاولات عبثه، ولكنه يأمل فى أن تتحسن أحواله ظروفه وترتقى أحواله فوق حالة المعيشة الإكلينيكية".
عرض مسرحى مدهش يجسد رسالة المسرح المصرى والمسرح عموما الذى يحول حياتنا إلى فانتازيا من الضحك فوق خشبة المسرح، ثم يدفعنا مباشرة الى آتون التفكير المقلق والحائر قبل أن يغلق ستائره، فالمسرح هنا تجسيد للأفكار فى إطار من المتعة والبهجة حتى لو كان يقدم كوميديا سوداء بأدواتها من الفكاهة والسخرية للتعامل مع القضايا الشائكة والصعبة لتصل الرسالة سهلة وبسيطة إلى جمهور العرض.
تبرز هنا جرأة ومهنية وحرفية الكاتب والمؤلف والمخرج الواعد أحمد فتحى شمس فى تقديم هذا النوع من الكوميديا الصعبة التى اعتمد فيها على الألم والمأساة والضحك معا. وحرصه على أن تكون الكوميديا السوداء هنا تمنحنا -كمشاهدين- السخرية والضحك أكثر ما تمنحنا البؤس واليأس.
المهنية والثقافة المسرحية والإلمام بفنون المسرح هى ما جعلت مخرج العرض على عرض المأساة الضاحكة والداعية إلى ضرورة التغيير للأفضل، كما كان يقوم دائما المسرحى والشاعر الألمانى برتولت بريخت عند كتابة نصوصه وبالنهايات المفتوحة والأسئلة الحائرة أيضا.
مثل هذا النوع من العروض "العايش إكلينيكيا" تستدعى الثقة الكاملة والتأكد من قدرة كافة عناصر العرض من ممثلين وموسيقى وإضاءة واستعراضات وإدارة وإخراج على جلب وتجسيد تناقضات وتعقيدات الواقع إلى خشبة المسرح. فأنت أمام فصول أو "اسكتشات مسرحية" متقطعة ولكنها متصلة فى الطرح المسرحى وبتكثيف ضاغط على "صابر" بطل العرض الذى يعيش حالة الاغتراب النفسى والانكسار الوجدانى والروحى والمستسلم لواقع حياته المهزومة، والخائف والمتردد فى إبداء أية مقاومة "فهو يعيش جنب الحيط وبداخله"، كما يعيش غالبية البشر منذ اللوحة المسرحية الأولى فى المدرس وتأمر الناظر والزملاء عليه وتنمر أهل خطيبته منه والاستهزاء به و"استعباطه"، ثم الضحك عليه وابتزازه فى الشارع الذى يلتقى فيه ببائعة الهوى، ثم داخل الكباريه وفى عيادة الطبيب الذى يكتشف أنه "حامل" فى مفارقة قدرية عبثية تكثف مأساة "صابر" وتظهر عجزه وخوفه وانكساره وانسحاقه وتكشف عورات المجتمع الذى يعيشه.
ومع نهاية العرض يحاول صابر أن يستنطق صرخة مكتومة بداخله فى وجه هذا الظلم الاجتماعى، وإن كانت صرخة مهزومة أيضا وربما مقصودة لترك النهاية مفتوحة رغم صوت الضمير الذى أداه باقتدار الفنان ياسر أبو العينين، الذى حاول أن يجيب عن الأسئلة المعقدة لصابر المنسحق والمتعب والمرهق الذى يعيش عند الحافة وعلى حد الكفاف. وهو الحل والتلخيص لأسئلة العرض الفلسفية والوجودية.
وبصفته كاتب النص ومؤلفه لم يغب عن المخرج أحمد شمس العمق الدرامى لكل شخصية فى العرض، فليس صابر وحده هو المهزوم والمنسحق ولكن كافة شخصيات العرض وبدرجات متفاوتة من المرأة أو العنصر النسائى الوحيد فى العرض -الفنانة نهلة كمال- أو الطبيب والناظر ومدير الملهى الليلى ووالد الخطيبة -الفنان محمد يوركا- أو المدرس ومطرب الملهى الفاشل وشقيق الخطيبة -الفنان محمد صفاء- وباقى الفنانين ياسر أبو العينين، أحمد خشبة، عمر صلاح الدين، عبد الرحمن محمد، ومحمد عبد المجيد جبر.
نحن أمام عرض مسرحى مبهر وممتع وقوى نستعيد معه الثقة فى المسرح المصرى، ويجعلنا نفخر بهذا الجيل المسرحى الذى يستحق الاهتمام والرعاية والدعم.
ما أعجبنى أيضا توظيف المخرج أحمد شمس كل أرجاء المسرح لصالح العرض والرؤية البصرية البديعة التى تضافرت فيها العناصر المسرحية، الديكور والإضاءة والموسيقى والغناء والرقص المسرحى، والتمثيل إضافة إلى الإخراج والنص لترسيخ الحالة النفسية لبطل العرض الفنان المبدع مصطفى حزين.
الأداء الحركى والاستعراضات ساهمت فى نجاح العرض بقيادة مصمم الاستعراضات الفنان محمد بيلا، فالدراما الحركية والاستعراضات تحول المسرح إلى لغة مرئية حية تمنح العرض طاقة وجمال تعبر عن المشاعر والمعانى دون كلام، مما يعمق التواصل مع الجمهور ويجعل العرض أكثر تأثيرا وجاذبية.
وشارك فى تنفيذ العرض عدد من المبدعين، الإضاءة لمحمد عبد المحسن، الديكور لأحمد رشاد، الألحان وضعها الموسيقار أحمد شعتوت، ونفّذت الموسيقى سهيلة رمضان. كما ساعد فى الإخراج كل من مهند طارق، مودى حسين، عبد الرحمن محمد، وأمينة عصام، وسها الشرقاوى بينما تولّى التنفيذ الإخراجى محمد الشيضى وسامر العربي.
لا يتبقى إلا الإشادة بالفنانة الموهوبة ابنة الإسكندرية نهلة كمال العنصر النسائى الوحيد فى العرض، لكنها أدت الأدوار الأربعة باقتدار وإبداع رغم تنوع اللوحات واختلاف الشخصيات. وأيضا الفنان مصطفى حزين ومحمد يوركا وعبد الرحمن علي.

Trending Plus