ربع قرن على "ملحمة" الناظر.. نظرة لما وراء الكوميديا.. الفيلم ربط بين انهيار التعليم وسقوط الحضارات.. مقدمة ساخرة رصدت تحول المدرسة من مؤسسة تعليمية لسجن بأسلاك شائكة.. والنتيجة لا مبالاة عاطف وانحراف اللمبى

فى سبتمبر 2022، أعلن القائمون على مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته الثامنة والثلاثين، قائمة لأفضل 100 فيلم كوميدى مصرى، كان المركز الخامس فيها هو فيلم " الناظر "، أيقونة النجم الراحل علاء ولي الدين الخالدة والسيناريست أحمد عبد الله والمخرج شريف عرفة، والذى يمر اليوم على عرضه بالسينمات 25 عاما، والسؤال الذى يطرح نفسه الآن، كيف استطاع "الناظر" أن يتبوأ تلك المكانة المميزة بين أفلام السينما المصرية الكوميدية، متفوقا على أفلاما عظيمة للريحانى وفؤاد المهندس وإسماعيل ياسين وبالطبع الزعيم عادل إمام؟
ربما يكون هذا التساؤل يصلح كنقطة انطلاق لرحلة من التأمل لما وراء كوميديا الناظر، فإذا كان الفيلم قد احتل مكانة متقدمة فى قائمة أفضل الأفلام الكوميدية، فهو من ناحية أخرى، يحتل مكانة لا بأس بها على مستوى المضمون الفكرى للفيلم، ليس الفني فحسب، وهو ما يضعنا أمام حالة استثنائية لعمل كوميدى فريد من نوعه، يحمل قيمة جوهرية تتعلق بقضية شائكة، والمقصود بالطبع، تلك الأفلام التى أنتجت من بداية الألفية الجديدة وحتى الآن، أي ربع قرن من الزمان.
صلاح عاشور.. بطل أسطوري؟
للملحمة الفنية والأدبية شروط، وفى بعض الأحيان تكون شروطا قاسية، لكى تتحقق مكونات الملحمة فى أي عمل، لكن إذا كان لكن قاعدة استثناءات، فالاستثناء في تلك القاعدة هو فيلم الناظر، الذى يمكن النظر إليه باعتباره ملحمة كوميدية، لا يحمل أى سمات الملاحم الدرامية، فلا هو عمل مأسوى، ولا بطلنا بطلا اسطوريا تنتهى ملحمته بهزيمة مُشرفة أو حتى مُخيبة، بل على العكس، انتصر الخير على قوى الشر في النهاية، لكن تظل رائحة الملحمة تلوح في الأفق وانت تراقب سباق صلاح الدين عاشور مع أعداءه، هو لا يواجه القدر، لكن الفشل يلاحقه، ومؤامرات المتربصين والمنتفعين، وجمود العقليات التى تحجرت عبر السنين، بل والأكثر صعوبة، محاولاته المستميتة لفك أصفاد سجن أبيه عاشور.
شخصية صلاح
مفتاح الناظر
قد يمنحك الفيلم ضحكات لا تنقطع على مدار ساعتين من الزمن، لكن المفتاح يكمُن فى الـ 7 دقائق الأولى من الفيلم، والتى يستعرض فيها المخرج مشاهد للتعليم في مصر على مصر العصور، بداية من عصر الدولة القديمة، ثم عصر الدولة الإسلامية، ثم مصر الحديثة، وصولا إلى الأوضاع الحالية، والملاحظ فى هذه القفزات بين العصور، هو ذلك الربط بين انهيار حال التعليم وسقوط الحضارة، فالهكسوس يظهرون في المشهد الأول (على الرغم أن الهكسوس لم يدخلوا مصر كغزاة بل تجار)، ثم ربط آخر بين انهيار التعليم ودخول التتار مصر، في الوقت الذى كانت تعانى فيه البلاد من الانقسام ما بين القوى المملوكية، وفى المشهد الثالث، نرى تدهور التعليم وثقله تزامنا مع الاحتلال الإنجليزى لمصر، حتى نصل إلى العصر الحالي، لتتحول المدرسة إلى سجن تحيطه الأسلاك الشائكة على أسواره.
التعليم.. ومقاومة الاحتلال
وإذا كانت تلك الملاحظة هى مفتاح الفيلم وتعبيرا عن رسالته بشكل كوميدى كاريكاتيري، لكن الملاحظة الثانية المصاحبة للأولى، هو ربط المخرج أيضا بين التعليم وفكرة المقاومة، فمقاومة الهكسوس بدأت من مُعلم الأطفال في مصر القديمة، ومقاومة التتار بدأت من المعلم الذى كان قبل قليل يستأثر بالجوارى لنفسه، كذلك شرارة مقاومة الانجليزى وثورة 19 انطلقت من المعلمين والطلاب فى المدارس، وان كان تناولها بشكل ساخر وعدم قدرة المتظاهرين على حمل مُعلمهم، ثم دمجه لهتاف "نموت نموت ويحيا الوطن"، بهتاف ساخر آخر وهو "يعيش الوطن واحنا مش مهم.. وايه البواخة ديه"، ثم يختم قائلا "لف وارجع تانى".
المُعلم المملوكي
النقطة الحقيقة لانطلاق الأحداث هى "موت الأب"، الذى كان يدير مدرسته بالحديد والنار، لكن بوفاته، تسود الفوضى وتتغير أحوال المدرسة من سيء لأسوأ، حتى يسيطر عليها مجموعة من المنتفعين، يهدفون للتحكم فى صلاح وريث عاشور، ليتربحوا من المدرسة وسط كل هذه الفوضى، حتى يظهر صوت العقل المتمثل فى الأستاذ حسين، الوحيد الذى كان يستطيع مُعارضة الناظر في قراراته وتصرفاته، ثم يتحول إلى "عراب" صلاح وملهمه في رحلة استعادة زمام الأمور داخل المدرسة.

لف وارجع تانى
يشبه عاشور الأب هؤلاء الذين يتشدقون بأمجاد الماضى ويتفاخرون بها دون أن يتقدمون خطوة واحدة للأمام، فيقول "مدرسة عاشور خرجت مدرسين ووزراء ودكاترة"، لكنها الآن تُصدر "الحرامية"، والدليل هي الملابس الممزقة على أسلاك المدرسة الشائكة فوق أسوارها.
لا مبالاة عاطف.. وانحراف اللمبى
لا تهتم تلك العقلية مطلقا بفكرة التعليم بقدر اهتمامها بفكرة الربح، فلم يهتم عاشور يوما بأن يتفوق تلاميذه، بقدر ما كان يهمه أن يكون هناك نظاما قويا، ومُخيفا للطلاب المتمردين، بل مخيفا للمدرسين أنفسهم، ولا مانع من ضرب أولياء الأمور أنفسهم، كذلك لا يعنيه أن تكون مدرسة البنات المجاورة له متفوقة عليه، بقدر ما تعنيه خسارة الكنتين رغم أن "الطعمية تجنن وسخنة وبسمسم والفول بالزيت الحار".
شخصية عاشور
ونتيجة لتلك السنوات الطويلة من الإهمال التعليمى، وتراجعه واضمحلاله، والاهتمام بالجوانب المادية، على حساب التجديد والتطوير في المؤسسة التعليمية نفسها، كان من الطبيعى أن تحصد العملية الدراسية لا مبالاة تمثلت فى الشاب عاطف، وانحرافات وفساد اللمبى، خريجى المدرسة، في أكثر عصورها اضمحلالا، فكان الطريق مُهيئاً أمام "بلطجة" وائل الذى صرخ بأعلى صوته في زملاءه "ماحدش هيتعلم هنا"، ليأتى صلاح ويردعه ويوقفه عند حده، لتبدأ المدرسة معه عهدا جديدا.
لماذا تمرد صلاح؟
سؤالا آخرا كان يحتاج إلى إجابة قاطعة، لماذا تمرد صلاح؟، فهدف البطل من البداية كان أن يُغير من نفسه، لكنه لم يفكر في التغير للأفضل اطلاقا، فالكبت الذى عاناه من والده، جعله يفكر في الانحراف فور وفاة الأب، فتذّكر "اللمبى"، أما الشيء الأخر، أن المدرسة تدر عليه دخلا وفيرا، فلماذا يغير هذا النظام؟
من الناحية الدرامية، كان هناك مبررا قويا، تمثل في انقاذ الطالب الذى قفز إلى مدرسة البنات "كريم محمود عبد العزيز"، فكانت المقامرة أن يدخل صلاح ومدرسة عاشور مسابقة مع مدرسة البنات، وتصبح إدارته للمدرسة مرهونة بفوزه في المسابقة، بعد أن عرف الجميع أنه لا يحمل شهادة الثانوية العامة.
الأستاذ حسين.. الحل المتأخر
على الجانب الآخر، كان الأستاذ حسين "هشام سليم"، هو كلمة السر في تغير مسار البطل، أو بالأحرى تعديل المسار، فهو لم يبنِ نظاما جديدا للمدرسة، لكنه أبقى الوضع كما هو عليه، وحفّز البطل لتطوير الطلاب ومُعلمى المدرسة، يمثل الأستاذ حسين، الفكر الجديد والإصلاح، ورغم أن حسين كان يحمل الحل، إلا أنه دائمًا ما كان يأتي متأخرا، وقد تكون هذه التفصيلة المتكررة من المخرج والمؤلف مُتعمدة، ليظل حسين هو بارقة الأمل، ونورا خافتا في نهاية النفق.

هشام سليم فى الفيلم
هل انتهى الفيلم نهاية سعيدة؟
أخيرا، هل انتهى الفيلم بنهاية سعيدة؟ بالطبع، كانت النهاية سعيدة دراميا، فصلاح أصبح ناظرا جديرا بالمدرسة، وانصلحت أحوال الطلاب بالمقارنة بما قبل ذلك، واستقرت كل الأمور، وتزوج صلاح وأنجب، لكن صلاح أطلق على ابنه اسم عاشور، وبالتالى، نحن ما زالنا في نفس الدائرة، أنجب عاشور صلاح، ثم أنجب صلاح عاشور، وهكذا، فالحل كان فرديا وسط المأساة الجماعية.

المشهد الأخير من الفيلم
مرّت 25 سنة على الفيلم، ومازال الفيلم يُمتعنا ويُضحكنا، ولكن يظل التعليم أيضا واحدا من أبرز تحدياتنا، بالفعل تُبذل فيه الكثير من الجهود، لكن عملية الإصلاح التي نأملها تحتاج لسنوات، ليس فقط بالقرارات وحدها، ولكن بمحاولة تغير العقول أولا، كما فعل حسين مع صلاح.

Trending Plus