أخبار الزمان.. ما يقوله المسعودي عن الكهّان من العرب

المعرفة ليست مضرة، وليس من الضرورى أن نصدق كل ما نعرفه، لكنه بصورة ما يفيدنا ذلك فى فهم طرق التفكير، لذا أحب العودة لقراءة كتب التراث وتأمل ما فيها، خاصة كتب التاريخ، التى تلقى الضوء على الحياة بداية حياة الإنسان على الأرض، ومن هذا المنطلق نقرأ معا ما كتبه المسعودى فى كتابه أخبار الزمان:
ذكر أخبار الكهّان من العرب
بلغ سطيح من الكهانة ما لم يبلغه أحد، وكان يُسمّى كاهن الكهّان، وكان يُخبر بالغيوب والعجائب، فقيل إن ربيعة بن نصر اللخمي رأى رؤيا هالته، فأمر بجمع الكهّان وأصحاب القيافة والزجر. فلما حضروا عنده، قال لهم: إني رأيت رؤيا هالتني، فأخبروني بها.
فقالوا له: قصّها علينا نخبرك بتأويلها.
فقال: لا أطمئن إلى تأويلها إذا قصصتها عليكم، ولا أُصدّق في تأويلها إلا من عرفها قبل أن أقصّها عليه.
فقال له رجل منهم: لا يفعل ذلك ويُوثق بقوله إلا سطيح الذئبي وشق اليشكري، فهما أعلم. فأرسل إليهما ليقدما عليك.
فقدِم سطيح قبل شق، وكان اسم سطيح ربيع بن ربيعة من بني ذئب بن عدي، فأكرمه ربيعة بن نصر، وقال له: إني رأيت رؤيا هالتني، وأريد أن تخبرني بها وبتأويلها.
فقال سطيح: أقسم بالشفق، والليل إذا غسق، والطارق إذا طرق، لقد رأيتَ حُممة خرجت من ظلمة،
فوقعت في أرض تُهامة،فأكلت كل ذات جُمجمة."
قال: صدقت، فما تأويلها؟
قال: أُحلف بما بين الحرتين من حنش، ليطأنَّ أرضكم الحبش، وليملكن ما بين أبين إلى جرش.
قال ربيعة: إن هذا لغيظ موجع، فهل في زماننا؟
قال: لا، بل بعده حين، أكثر من ستين أو سبعين، يمضين من السنين، ثم تُقتلون بها أجمعين، وتُخرجون منها هاربين.
قال: فمَن يَبتلي ذلك منهم؟
قال: غلام رحب الفطرة من آل ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحداً منهم باليمن.
قال: فما تصنع اليمن؟
قال: يملكها بعدهم قوم ذووا أخطار من رجال أحرار.
قال: أفيدوم ذلك أم ينقطع؟
قال: بل ينقطع.
قال: ومن يقطعه؟
قال: نبيٌّ ذكيّ أمين قويّ، يأتيه الوحي من قبل الواحد العليّ.
قال: وممّن هذا النبي؟
قال: من ولد غالب بن فهر بن مالك بن مُضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر.
قال: وهل للدهر من آخر؟
قال: نعم، يوم انفطار السماء، والوقوف للجزاء، بالسعادة أو الشقاء.
قال: وأيّ يوم هو؟
قال: يوم يُجمع فيه الأوّلون والآخرون، ويُسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون.
قال: أحقٌّ ما تُخبرنا به يا سطيح؟
قال: نعم، والشفق، والغسق، والقمر إذا اتسق، إن ما أنبأتك به لحق.
ومن أخباره أيضاً: أن عبد المطلب بن هاشم كان له ماء بالطائف، يُقال له "ذو الهدم"، فادّعته ثقيف، فجاؤوا فاحتفروه، فمنعهم عبد المطلب، فعظم خصامهم، فنافرهم عبد المطلب إلى سطيح.
فخرج عبد المطلب ومعه ابنه الحارث، وجماعة من قومه، وخرج خصمه جندب بن الحارث في جماعة من ثقيف. فلما كانوا في بعض الطريق نفد ماؤهم، فطلبوا من الثقيفيين أن يسقوهم فلم يفعلوا. فنزل عبد المطلب وأصحابه، وهم لا يشكون أنه الموت، ففجّر الله لهم عين ماء عذب تحت حُبُر جِراب بعير عبد المطلب، فشربوا واستقوا وحمدوا الله عز وجل.
ثم نفد ماء الثقيفيين، فسألوا عبد المطلب أن يسقيهم، ففعل. فقال له ابنه الحارث: لأن أدخل سيفي في بطني أهون عليّ من أن أفعل ذلك!
قال له: يا بني، اسقهم، فإن الكرم ثقيل الحمل.
فسقاهم، وساروا حتى قطعوا رأس جرادة، فجعلوه في خرز مزادة، وعلقوه في جلد في عنق كلب لهم اسمه "سُوار"، وكانت في عنقه قلادة لا تفارقه.
فلما أتوا سطيحًا، قال لهم: ما تسألون؟
قالوا: نسأل عن شيء خبّأناه، ونحتكم عندك في أمر وقع التخاصم فيه.
فقال: خبّأتم رأس جرادة في خرز مزادة في عنق سُوار ذي القلادة.
قالوا: صدقت، فأخبرنا عما اختصمنا فيه.
قال: أُحلف بالضوء والظُّلَم، والبيت ذي الحرم، أن الدفين "ذو الهدم"، لهذا العربي ذي الكرم. فانصرفوا وقد قضى لعبد المطلب.
يُكمل النص بنفس النسق مع مراجعات مشابهة: تصحيح علامات الترقيم، ضبط بعض الألفاظ، تصحيح التصريفات النحوية دون الإخلال بالأصالة اللغوية.
ومن أخباره أن كسرى أبرويز لما رأى في نومه كأنّه سقط من قصره ست عشرة شُرفة، ارتاع لذلك، فوجه إلى الموبذان فأعلمه بذلك، وقال: إن هذا قد هالني وأفزعني.
قال الموبذان: أيها الملك، عسى أن يكون خيراً. وإنّي، أيها الملك، كنت أرى البارحة أنّ النيران قد خمدت، وقلعت بيوتها، وهلك سدنتها، وقد أغمني ذلك. وكنت عزمت أن لا أُخبر الملك حتى يُرسل إليّ، فأتاه.
قال كسرى: فما الداعي؟
قال الموبذان: قد بلغني أن بأرض العرب كاهناً يُقال له سطيح، يُخبر بما يكون قبل كونه، فلو أرسل الملك إليه رسولاً يسأله عن ذلك، فلعله يُخبره بتأويله.
قال كسرى: ومن لنا برجل حصيف ينفذ في ذلك؟
وكان على باب الملك، ممن وفد عليه من العرب، رجل يُقال له عبد المسيح، من رهط سطيح، فأشار به الموبذان على كسرى. فأحضره الملك، ولم يُخبره بما رآه، وقال له: انطلق إلى سطيح، فاسأله عن رؤيا رأيتها، فإذا أخبرك بها، فاسأله عن تأويلها، فإذا فعل، فارجع مسرعاً ولا تتخلف.
قال: أفعل، أيها الملك. فأمر له بمال وجائزة، وحمله إليها.
فركب عبد المسيح راحلته، ومضى مبادراً، يقطع المفاوز والفيافي، حتى بلغ دار سطيح بعد أيام. فلما وصل إلى بيته، وجده عليلاً، فوقف عليه وسلّم، وجعل يرتجز ليسمعه:
أَصَمٌّ أم يسمع غُطْريفُ اليمن؟
يا فاصلَ الخُطّة أعيت من ومن؟
قال سطيح، مجيباً: عبد المسيح، على جمل فسيح، أَوفى على سطيح، وقد أشفى على الضريح، يسأل عن ارتجاج الإيوان، ورؤيا الموبذان، وخمود النيران...
قال عبد المسيح: فالتأويل، يا سطيح؟
قال: تنقضي أيامهم، وتنقطع آثارهم، وتملك العرب ديارهم، عند ظهور صاحب التلاوة، والقضيب والهراوة.
قال: ومتى ذلك يا سطيح؟
قال: إلى أن يملك منهم ملوك وملكات، على عدد الشرفات.
وقبل ذلك ينقضي أمر سطيح، ويواريه الضريح، ولا يصلح له فيها قرار.
وقد رُوي هذا الكلام على غير هذا النحو، وأُطيل فيه أكثر من ذلك.
فرجع عبد المسيح إلى كسرى، وقد حفظ كلام سطيح، فعجب كسرى وسُرّ، وقال: إلى أن يلي منا ستة عشر ملكاً، يكون في ذلك سعة لدفع الهمّ. ولعلّ ذلك لا يكون...
فرأى من الملوك تلك العدّة في سنين قليلة، حتى انقضى ملكهم في خلافة عثمان رضي الله عنه.
وقيل إنّ الرؤيا كانت ليلة مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقال إن سطيحاً عاش أربعمائة سنة.

Trending Plus