عصام عبد القادر يكتب عن التطرف الفكرى: قراءة في المنهجية.. الانتقائية العقائدية.. التسلل للعقول.. تكريس الفهم المغلوط.. بناء الصرح على أنقاض الأوطان.. حتمية المواجهة

التطرف الفكري يعتمد على تحقيق هدف رئيس، يتمثل في هتك نسيج المجتمعات، وشق صف الشعوب؛ كي يجد له ملاذًا، وبيئة حاضنة، تنمو، وتتكاثر؛ فتقوى شوكته، وتزداد منعته، ويصبح قادرًا على الولوج إلى عمق الداخل؛ فيصيب كثيرًا من العقول بمفاهيم مغلوطة، تحدث صراعات معرفية، تستقر في الأذهان؛ فتجعل الإنسان مشوشًا، منقادًا، لا يستطيع أن يستقرأ صحيح المشهد من كثرة الضبابية، التي تحيط بفكره؛ فيتقبل كل ما تدرُّه منابر الفكر المشوب، والمنهج المريب.
يدرك أصحاب الراية السوداء من الجماعات المتطرفة أن استقرار الأوطان يطيح بسيناريوهات مخططاتهم التوسعية؛ ومن ثم تحاول بطرائق لا حصر لها أن توقع الضغينة، وتبث الفتن؛ لينتج عن ذلك ارتباكًا في المشهد، يؤدي على زعزعة الاستقرار داخل السياج المجتمعي بين منتسبيه، وهنا ندرك السلاح الفتاك، الذي تمسك به الفئات الضالة من تلك الجماعات سيئة المأرب؛ حيث تعظيم الخلافات الفكرية بين أبناء المجتمع، لتبدأ حالة من الاختلاف يسفر عنها خلاف حادٌّ، يتحول من صورته الفكرية إلى إحدى صور الإرهاب المادي.
مشهد الاندماج المجتمعي، وصور التنمية في إطارها المستدام يقلق أصحاب الأجندات السوداء؛ لذا يعكفون على قراءة طبيعية الشعوب؛ كي يستكشفوا طرائق الوصول إلى عقول المورد البشري، الذي يقوم على عاتقه مهام الإعمار؛ لما يمتلكه من طاقات إيجابية، متقدة، تحدث نقلات نوعية في تقدم، ونمو اقتصاديات البلاد، وتدفع بها إلى الرقي، والازدهار، ومن ثم تحيك نسيجها حول مراكز صناعة التفكر لدى الثروة البشرية؛ لتشتت أذهانها، وتبدد جهودها، وتفكك لحمتها؛ لتدبَّ الضغينة بين الأبناء، وهو ما يؤدي إلى هتك للنسيج، وكسر صلابة الجبهة الداخلية، وإضعاف قوتها؛ ليسهل الانقضاض عليها، والنيل منها بكل سهولة، ويسر.
حرفية التسلل للعقول، قد باتت ممكنة في ظل فضاء مفتوح، يفرز طوفانًا من الأفكار المشوبة، أو التي تحمل بين طياتها فلسفة الذرائع، التي تفتح المجال للخصومة الفكرية، وتحرض الأيدولوجيات بصورة غير مباشرة في البداية؛ ثم تسكب مزيدًا من السموم، التي تؤدي إلى استعادة صور الخلاف؛ كي تغرق الجماعات، والمجموعات وفق أيدولوجياتها المختلفة في الجدال، الذي تزداد وتيرته، وتصل إلى مستويات الصلابة الفكرية، التي لا تتقبل الرأي الأخر، ولا ترغب في عقد حوار بنَّاء في ضوء قواسم مشتركة؛ ومن ثم تبادر بالمقاومة المسلحة، التي يترتب عليها إزهاق الأرواح، وسفك الدماء دون تورع.
مشرب الجماعات صاحبة الفكر المشوب، يقوم على الانتقائية في الجانب العقدي؛ حيث لا تلتزم بمقاصد الشريعة، وثوابتها الراسخة، وتؤوّل الفتاوى بما يخدم مآربها، ويحقق غاياتها، وتعمل عن قصد على إصابة المتلقي بالفهم الخطأ، سواءً في التفسير، أو تقديم الدلالة؛ نظرًا لاستنادها على مصادر مشوبة في أصلها؛ ومن ثم تضع من المقومات، التي تختار بها من يقعون في شبكة الضلال خاصتهم؛ لتزرع في الأذهان ما يفسد المعتقد، ويؤصل للمقاومة في صورتها العنيفة، لكل من يحاول أن يصوّب لديهم أنماطًا مغايرة للمعني، والمغزى الصحيح.
متطرفو الفكر يشوهون بصورة ممنهجة وسطية المعتقد، ويدَّعون أنها مفسدة، تحض على الضعف، وتودي بأصول العقيدة، وتفسدها، وتفتح المجال؛ لتقبل الآخر رغم فسوقه، وخروجه عن دائرة الدين؛ ومن ثم يتبنون مبادئ، وقواعد خاصة بهم، ويعززون في نفوس منتسبيهم أن إراقة الدماء من أجل نصرة دين الله- عزوجل- باب من أبواب الجهاد، يتوجب اتباعه، ولا يعبئون بماهية الأوطان، ويعتبرونها ديارًا، يتجمع فيها الخبث، والرجس، ولا يحضون عن الدفاع عنها، والزود عن مقدراتها؛ فهي بلاد لا بد من تفكيكها؛ من أجل بناء دولة خالصة لفكرهم، تحتضن فقط من يناصرهم، ويمشي على عقيدتهم المشروطة بالولاء لقادتهم.
السماحة، والسلم والسلام، لا تمت بصلة إلى أصحاب الرايات السوداء؛ لأن المفاسد لا تُدرأ إلا بشريعة السلاح، الذي يفتك بكل من يخالف شريعتهم، التي تحث على الخروج من عباءة المجتمع، إلى ساحة الجهاد، ضد كل من يعلن مقاومة فكرهم، ومعتقداتهم غير السوية؛ لذا يغيب عن منهجهم الأصم صحيح الشريعة، التي تؤكد على فلسفة الحوار، والمناقشة، التي تعلى من قدر العقول، وتؤكد على صحة الحديث من خلال الشاهد، والدليل، وليس عبر اتباع طرائق، تطيح بماهية الأمن، والأمان، والاستقرار، والتعايش السلمي؛ ومن ثم نرى سلوكيات يصعب أن يصدقها عقل رشيد، في تعاملات هذه الجماعات، التي تتخفَّى في الظلام الحالك؛ كي تصل إلى غاياتها، التي تنسدل من عقيدتها المشوبة.
المستغرب أن الإرهاب، قد بات يدلو بدلوه في الحياة الاجتماعية، بل، وسائر مجالاتها السياسية، والاقتصادية أيضًا، والأغرب أنه يحلل حرامًا، ويحرم حلالًا وفق الهوى؛ فقد ينهي عن أمر، ويأتي مثله، إذا ما تغيرت المعادلة، وصارت له مكانة، ومنعة، وهذا يؤكد على حقيقة فحواها، أن أصحاب الفكر المتطرف، يجهلون بصحيح الشرع، وأحكام العقيدة؛ لذا تظهر التحديات، والأزمات، والمشكلات، التي تعاني منها المجتمعات هذا الأمر الخطير؛ حيث الفشل الزريع للأنظمة، التي تديرها تلك الفئات الضالة في مسعاها، ومقصدها.
متطرفو الفكر دومًا ما يسعون إلى تجديد أساليب، واستراتيجيات الخداع، التي يتبعونها في غواية شباب الأمة؛ حيث يسعون إلى تفخيخ المجتمعات، من خلال بوابة الأيديولوجية، وهذا ما يثير حفيظة الشعوب، التي تربت على التآلف، والمحبة، والوئام، ونسجت فيما بينها خيوطًا متينة، تؤكد على حسن العلاقات، والجوار، والتعاون، والشراكة؛ حبًا في نهضة، وبناء الأوطان؛ لذا لا تستطيع أن تفرق بين هذا، وذاك على أساس طائفي، أو عقدي؛ فالجميع سواسية تحكمهم قوة العدل، والمساواة، وهنا يصعب أن يضار مجتمع قد أخلص النية، وفقه ماهية الدولة، وعلم ما يحاك به من مؤامرات، تستهدف تفكيكه، وهتك نسيجه؛ للانقضاض على مقدراته.
أصحاب التطرف الفكري، لا يستهدفون فقط هدم الأوطان، أو القضاء على البنيان؛ لكن غايتهم تكسير ثوابت هذه الأمة، التي تود اللحاق بقطار التنمية؛ لتخرج شعوبها من حالة العوز إلى حالة الاكتفاء؛ بغية العزة، والكرامة؛ لذا فمحاولاتهم تستهدف مباشرة إلحاق الضرر المعنوي قبل المادي؛ حيث الغزو الفكري، الذي ينادي بكل صور التطرف، والخروج عن الأنظمة، بل، وإشاعة الفوضى على سبيل فلسفة واهية، تدعى الحرية، التي تهلك الحرث، والنسل؛ فعندما يغيب الوعي، ويطمر الإدراك بضباب فكر مشوب؛ فإن النتيجة لا شك وخيمة، يحصد نتاجها جيل تلو آخر.
القضاء على الحضارات، وما تشمله من ميراث ثقافي ضمن أولويات أصحاب الرايات السُّود من ذوي الفكر المنحرف؛ بغرض طمس الهوية الوطنية، أو القومية، واستبدالها بثقافة التشدد، والغلو، التي تفتح نار جهنم لكل من يحاول أن يوقفها، أو حتى يشير إليها بالبنان مستنكرًا؛ فما أيسر! التكفير لبني البشر، وما أسهل! سفك دماء الأبرياء، أصحاب الفكر المعتدل، وما أهون! من وطن، ويباع، ويشتري مقايضة لأغراض خبيثة، تطيح بمكتسباته، وتقوض مسارات نهضته، وتقدمه.
منهجية التطرف الفكري يدق لها ناقوس الخطر، ويتوجب علينا دون استثناء أن نكون مستيقظين لها؛ فهناك من يروّج لها بالقبول، وأنها الملجأ الوحيد؛ لبناء الخلافة المنتظرة، وأن الولاية قد باتت على أبواب قريبة على أنقاض دول صارت ممتلئة بمآسي البشر، والحجر، والشجر، يتوجب علينا أن نقاوم الفكر بالفكر، ونقارع الحجة بالشواهد، والأدلة، التي تبطل الفكرة المسمومة؛ لتنتزع من صدور غلفتها ظلمات الجهل، والجهالة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.

Trending Plus