أزمة صامتة داخل جيش الاحتلال الإسرائيلى.. ارتفاع حالات الانتحار وتفشي الاضطرابات النفسية في أعقاب حرب غزة.. يديعوت أحرونوت: أكثر من 10 آلاف جندي يتلقون علاجًا نفسيًا.. ومعاريف: الكنيست سيعقد جلسة نقاش عاجلة

منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، لم تتوقف التقارير التي تسلط الضوء على حجم الكارثة النفسية التي تضرب صفوف الجيش الإسرائيلي، فمن ميدان المعركة إلى المستشفيات النفسية، ومن تقارير الوفاة إلى جلسات الكنيست، تبرز حقيقة مقلقة وهى أن الجيش الذي خاض حربًا شرسة على قطاع غزة المحاصر، يعاني الآن من حرب داخلية صامتة، حرب نفسية لم تهدأ بعد.
فخلال أقل من عامين، ارتفعت حالات الانتحار في صفوف الجنود الإسرائيليين إلى مستويات غير مسبوقة، وأعلنت إذاعة الجيش الإسرائيلي انتحار 18 جنديًا منذ بداية 2025 فقط، فيما تشير تقارير صحية إلى أن العدد الكلي للمنتحرين منذ بداية الحرب يتجاوز 54 حالة، وتعتبر هذه الأرقام انعكاسًا لأزمة نفسية عميقة، دفعت أحد المحللين الإسرائيليين للقول إن "الجيش خرج من غزة، لكن غزة لم تخرج منه".
وسلط تقرير نشره موقع إنسايد أوفر الإيطالي الضوء على المعاناة النفسية العميقة التي يعيشها الجنود الإسرائيليون بعد مشاركتهم في الحرب على قطاع غزة ولبنان، معتبرا أن ارتفاع حالات الانتحار يكشف حجم الكارثة في ظل تجاهل رسمي للإحصاءات المفزعة.
وقال الكاتب أندريا أومبريلو إن دانيئيل إدري، وهو جندي احتياط في الجيش الإسرائيلي، أضرم النار في نفسه قرب مدينة صفد بعد أن خدم في غزة ولبنان، ليتحول من جلاد إلى ضحية بعد أن طاردته صور الأجساد المتفحمة التي لم يكن قادرا على نسيانها.
ونقل الكاتب عن والدة دانيئيل قولها لوسائل الإعلام الإسرائيلية إن العذاب الداخلي كان ينهش ابنها بعد الخدمة العسكرية، حيث طاردته رؤى من ساحات الحرب في غزة ولبنان، وعجز عن التحرر من رائحة اللحم المحترق وصور القتلى والمصابين.
وكان إدري قد عبر في الأيام التي سبقت انتحاره عن حاجته الماسة إلى دخول مستشفى للعلاج النفسي بسبب قلة النوم وذكريات الحرب، لكنه تلقى ردا مفاده وجود فترات انتظار طويلة.
وتشير تقارير صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى أن أكثر من 10 آلاف جندي يتلقون علاجًا نفسيًا حاليًا، فيما تقدم أكثر من 9 آلاف آخرين بطلبات اعتراف رسمية كمصابين نفسيًا، معظمهم من جنود الاحتياط، ووفق تقديرات وزارة الدفاع، فإن عدد الجنود المصابين نفسيًا قد يصل إلى 100 ألف حالة بحلول عام 2028، نصفهم على الأقل يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة .
وتفيد الصحيفة نقلًا عن تقارير ومعلومات عن وزارة الدفاع، بأن هؤلاء الجنود المصابين حاليا خرجوا من الخدمة ليس فقط كأفراد من الجيش بل أيضا من سوق العمل ، ما يؤثر على الاقتصاد والمجتمع معا.
وتؤكد الصحيفة أن هذا الرقم كان يتوقع سابقا الوصول إليه في عام 2030، غير أن التسارع في تسجيل الإصابات العقلية دفع السلطات إلى إعادة تقييم أنظمتها وموازناتها وخططها العلاجية.
ويؤكد التقرير أن الحرب الحالية أحدثت ارتفاعًا غير مسبوق في عدد المصابين النفسيين، إذ جرى في عام 2024 وحده الاعتراف بـ1600 جندي على أنهم يعانون من أعراض ما بعد الصدمة، بينهم 1512 رجلا و88 امرأة غالبيتهم من جنود الاحتياط.
كما تقدر وزارة الدفاع أن يشهد عام 2025 مزيدًا من الحالات النفسية الحرجة، رغم التراجع النسبي في وتيرة العمليات العسكرية في قطاع غزة، حسب يديعوت أحرونوت.
ويذكر التقرير نقلًا عن دراسات نفسية أن تأثير الصدمات لا يظهر غالبا أثناء القتال، بل يتفجر لاحقا بعد توقف العمليات وعودة الجنود إلى حياتهم اليومية.
ويشير التقرير إلى أن أكبر التحديات التي تواجهها إدارة إعادة التأهيل بوزارة الدفاع هو النقص الحاد في الطواقم الطبية المؤهلة للتعامل مع هذه الأعداد.
وتقول الوزارة إنها تملك حاليا أخصائيا اجتماعيا واحدا لكل 750 مريضًا، ما يجعل من المستحيل تقريبًا تقديم عناية شخصية فعالة لكل حالة، هذا إلى جانب النقص العام في عدد الأطباء النفسيين في البلاد.
وتنقل الصحيفة عن وزارة الدفاع استحداث عشرات الأساليب للتعامل مع تفاقم الأزمة، منها إقامة 10 مناطق تأهيلية، وافتتاح وحدة صحية نفسية عاجلة على طراز العناية المركزة.
ومن الإجراءات أيضا، تسيير دوريات استجابة نفسية عاجلة، تعمل كبديل لسيارات الشرطة، وتستجيب لحالات الطوارئ التي تشمل محاولات انتحار أو انهيارات نفسية حادة، إذ تشير الوزارة إلى أن هذه الدوريات تتعامل أحيانًا مع 3 إلى 4 حوادث يوميا.
كما جرى افتتاح إدارة إعادة تأهيل 4 منازل مفتوحة قرب أجنحة الطب النفسي في المستشفيات، جميعها ممتلئة حاليًا، بالإضافة إلى بيت خاص أقيم في مستوطنة "حفيت" مخصص لجنود الاحتياط الذين لا يستطيعون البقاء في بيوتهم بسبب أزمتهم النفسية.
ويشير التقرير إلى أن "الانفجار" في عدد المرضى النفسيين في الجيش تسبب بزيادة ضخمة في النفقات تتجاوز المليارات من الشواكل، وهي أعباء لم تكن محسوبة في ميزانية الدفاع.
صحيفة "هآرتس" كشفت عن انتحار أحد جنود لواء جولاني داخل قاعدة عسكرية بعد تحقيق أمني، وسحب سلاحه الشخصي، ما دفعه إلى الاستيلاء على سلاح زميله والانتحار، كما نقلت "معاريف" أن الكنيست ناقش أعطالًا في مركبات قتالية تستخدم في غزة، وهو ما يثير تساؤلات عن الضغوط النفسية والتقنية المتزايدة على الجنود في الميدان.
كما تتسع الأزمة لتشمل جوانب أخرى أكثر حساسية، إذ سجلت الأشهر الماضية حالات رفض علني من جنود احتياط للعودة إلى غزة، واعتبروا أن استمرار الحرب عبثي، وأن حياتهم النفسية تنهار، ورفض أربعة جنود من كتيبة ناحال تنفيذ الأوامر، فتم فصلهم ومحاكمتهم عسكريًا، رغم خوضهم جولات قتال سابقة وفقدانهم لزملاء وأصدقاء.
من ناحية ثانية، ذكرت صحيفة معاريف أن الكنيست سيعقد جلسة نقاش عاجلة بطلب من عائلات جنود الكتيبة 605 الهندسية الذين حذروا من أعطال خطيرة وعيوب أمنية في نظام مركبة بوما القتالية والمستخدمة في غزة.
ويعترف الجيش الإسرائيلي، ضمنيًا بالمشكلة دون تقديم أرقام دقيقة، فقد أقر نائب مدير وزارة الدفاع، إيتامار غراف، بصعوبة التعامل مع تصاعد حالات الانتحار، مؤكدًا أن كل حالة انتحار هي "فشل للنظام"، وتحدث عن تأسيس فرق تدخل نفسي مدني تزور الجنود في منازلهم، محاولة لتخفيف المعاناة، ولكن "الوضع أكبر من قدرة المنظومة"، على حد تعبيره.
ويقر الجيش الإسرائيلي من دون الاعتراف بأرقام إجمالية أن هناك اتجاها مثيرا للقلق في عدد حالات الانتحار بين الجنود، وأن هناك علامات استفهام حول صحة طرق التعامل معها، ويعترف الجيش بأن هناك ثمنا للحرب يتمثل في 891 قتيلا من الجيش حتى الآن وارتفاعٍ كبير في حالات الانتحار.
وحسب بيانات الجيش قفز عدد حالات الانتحار في الجيش بعد الحرب منذ عام 2023، وأنه تم تشكيل فرق للتعامل مع ردود الفعل القتالية، ويرافق كل وحدة مقاتلة طاقم يقوم بعمليات المعالجة للمقاتلين. يقوم الجيش الإسرائيلي ببناء خطة للتعامل مع الاضطرابات النفسية للجنود حتى بعد انتهاء الحرب، على أساس أن العديد من الجنود سيقعون في اضطرابات نفسية بعد القتال، ويقول الجيش الإسرائيلي إن هناك علاقة بين تعقيد القتال وزيادة حالات الانتحار، ويؤكد الجيش الإسرائيلي أن زيادة عدد جنود الاحتياط داخل الجيش أدى إلى زيادة عدد ضحايا الانتحار مقارنة بالسنوات السابقة.
وتشير تقارير صحفية وتحليلات ميدانية إلى أن الجنود يخضعون لضغط نفسي هائل بسبب طول فترة التجنيد، ومشاهد الحرب القاسية، إضافة إلى غياب الدعم النفسي الفوري، والشعور بالذنب أو الخوف أو فقدان المعنى بعد الحرب، وأحد الجنود وصف تجربته قائلاً: "نحن نرسل للقتل، ثم نترك لنقتل من الداخل".
ووفقًا لموقع "والا" ، ففي مايو، حكم على جنود إضافيين من كتيبة "ناحال" بالسجن مع وقف التنفيذ بعد طلبهم الخدمة في مواقع خلفية لأنهم "سئموا من القتال المستمر"، كما أن الغضب دفع جنودًا آخرين إلى اتهام الحكومة بتقديم مواصلة الحرب على غزة، على ضرورة إعادة الرهائن المحتجزين لدى حركة حماس.
ومنذ أكتوبر الماضي، وقع حوالي 140 جنديًا على رسالة أعربوا فيها عن رفضهم الاستمرار في الخدمة إذا لم تعط حكومة نتنياهو أولوية للإفراج عن الرهائن في أي صفقة محتملة.
كما اتخذ الجيش الإسرائيلي مؤخرا إجراءات عقابية ضد عدد من جنوده بعد رفضهم أوامر العودة للقتال في غزة، في ظاهرة تشير إلى موجة متصاعدة بين جنود الاحتياط الشباب في إسرائيل الذين يرفضون المشاركة في الحرب على غزة المستمرة منذ ما يقارب عامين.
ورفض أوامر العودة للقتال من قبل الجنود الإسرائيليين يأتي في وقت تعاني فيه حكومة بنيامين نتنياهو من أزمة داخلية عميقة مع رفض الجناح المتطرف بوقف الحرب في غزة وإدخال بعض المساعدات، وسط تحذيرات من "انهيار سياسي شامل" قد تواجهه إسرائيل دوليًا، لا سيما في الولايات المتحدة، إذا لم تُبادر إلى خطوات عاجلة تُظهر تغييرًا في نهجها، في ظل ما يحدث من تجويع في غزة.
وأفادت قناة "كان" الإخبارية الإسرائيلية الأحد، أن 4 جنود من الكتيبة 931 في لواء ناحال أبلغوا قادتهم رفضهم المشاركة في أي قتال آخر في قطاع غزة، وعلى الفور تم فصل الجنود الأربعة من الخدمة الفعلية لرفضهم الأوامر، وحوكم 3 منهم أمام محكمة عسكرية، وحُكم عليهم بالسجن لمدد تتراوح بين 7 و12 يومًا.
من جانب آخر، يزداد الإحباط داخل المجتمع الإسرائيلي من استمرار الحرب، وسط ارتفاع تكاليفها الاقتصادية والبشرية، الكاتب بن كسبيت وصف الواقع القائم بـ"الخراب المنتشر"، مؤكدًا أن الناس لم يعودوا يحتملون، والجيش يدفع الثمن غاليًا.

Trending Plus