أوهام القرن العشرين.. بين حلم اللحاق وكابوس التبعية 2

كريم السقا
كريم السقا
بقلم كريم السقا

مع انحسار ظل الاستعمار عن أراضٍ شاسعة في آسيا وأفريقيا، وُلد تخصص جديد في أروقة الجامعات ومؤسسات العالم الكبرى: "اقتصاديات التنمية". كان العالم منقسمًا، وكانت الدول الجديدة ساحة صراع بين القوى العظمى، وكان السؤال المطروح بحدة: كيف لهذه الأمم الوليدة أن تلحق بركب الحضارة؟

في البداية، ساد التفاؤل. نظرت مدرسة "التحديث" إلى التاريخ كطريق واحد مستقيم، سارت عليه دول الغرب من قبل، وما على دول "العالم الثالث" إلا أن تتبع خطاها. كان الأمر يبدو بسيطًا: تخلصوا من تقاليدكم البالية، ارفعوا معدلات الادخار، استوردوا التكنولوجيا، وستصلون. وقدّم مؤرخ اقتصادي أمريكي يُدعى والت روستو خريطة لهذا الطريق، مقسمة إلى خمس مراحل واضحة، تبدأ بالمجتمع التقليدي وتنتهي بعصر الاستهلاك الجماهيري الوفير.
وسرعان ما ارتدى هذا التفاؤل ثوبًا رياضيًا أنيقًا على يد رجلين، سولو وسوان، اللذين صاغا نموذجًا للنمو أصبح حجر الزاوية في الاقتصاد الحديث. قال نموذجهما إن تراكم رأس المال وحده لا يكفي لتحقيق نمو دائم، فكل آلة جديدة تضيفها إلى مصنعك ستكون فائدتها أقل من سابقتها. إنها لعنة "تناقص العوائد". أما سر النمو المستدام، فيكمن في شيء آخر، شيء غامض أسموه "التقدم التكنولوجي"، وتركوه خارج معادلاتهم كسر إلهي لا يُعرف مصدره. لكن هذا النموذج حمل في طياته نبوءة عظيمة: "التقارب". فالبلدان الفقيرة، لأنها تملك القليل من رأس المال، يجب أن تنمو أسرع من البلدان الغنية، وفي النهاية، سيلحق الفقير بالغني في عالم يسوده الرخاء.
لكن السنوات مرت، والنبوءة لم تتحقق. ظلت دول كثيرة تراوح مكانها، بل إن الفجوة بينها وبين الأغنياء كانت تتسع. كان نموذج سولو-سوان، بكل أناقته الرياضية، أشبه بساعة جميلة لا تخبرنا لماذا يتأخر الوقت في بعض الأماكن ويتسارع في أخرى. لقد أصبح "مقياسًا لجهلنا"، تاركًا السؤال الأهم معلقًا في الهواء: من أين يأتي هذا التقدم التكنولوجي السحري؟ ولماذا تهبه الآلهة لأقوام وتحرمه عن آخرين؟
ومن قلب خيبة الأمل هذه، انطلقت صرخة احتجاج مدوية من الجنوب، من أمريكا اللاتينية. قال أصحاب نظرية "التبعية" إن التخلف ليس مرحلة عابرة، بل هو قدر محتوم، وهوية فرضها النظام الرأسمالي العالمي. فالعالم، في نظرهم، مقسوم إلى "مركز" مهيمن و"أطراف" مُستَغَلة. لقد أعاد الاستعمار هيكلة اقتصادات الأطراف لتصبح مجرد مزارع ومناجم تنتج المواد الخام الرخيصة للمركز، الذي يعيد بيعها لها كسلع مصنعة بأسعار باهظة. التنمية والتخلف، كما قال أندريه غوندر فرانك، هما "وجهان لعملة واحدة"؛ فالثروة التي تراكمت في الغرب هي نفسها التي انتُزعت من بقية العالم.
ثم جاء إيمانويل والرشتاين ليضيف تفصيلاً جديدًا لهذه الخريطة القاتمة، فقسم العالم إلى ثلاث طبقات: "المركز" الذي يسيطر على التكنولوجيا ورأس المال، و"الأطراف" التي تقدم المواد الخام والعمالة الرخيصة، وبينهم منطقة رمادية هي "شبه الأطراف"، التي تُستَغَل وتستغِل في آن واحد، وتعمل كصمام أمان يمنع انفجار النظام بأكمله.
كانت الوصفة الطبية التي قدمها هؤلاء المنظرون هي الانعتاق. دعوا إلى قطع حبال التبعية، وإلى سياسة "التصنيع لاستبدال الواردات"، حيث تغلق الدولة أبوابها أمام السلع الأجنبية لتحمي صناعاتها الوليدة. لكن هذه الاستراتيجية فشلت هي الأخرى في معظم الأماكن، فالسوق المحلية أضيق من أن تستوعب هذا الإنتاج، والشركات المحمية أصابها الترهل والفساد.
وبحلول الثمانينيات، مع أزمات الديون التي عصفت بالعالم النامي، عاد البندول ليتأرجح بقوة في الاتجاه المعاكس. انطلقت "الثورة النيوكلاسيكية المضادة"، التي حملت لواءها مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، وأعادت الإيمان القديم بسحر السوق. قالت هذه الثورة إن التخلف ليس سببه الاستغلال الخارجي، بل هو نتيجة للتدخل الحكومي المفرط والأسعار المشوهة في الداخل. الحل، كما روج له "إجماع واشنطن" عبر صندوق النقد والبنك الدوليين، يكمن في الخصخصة، وتحرير التجارة، وفتح الأبواب أمام رأس المال الأجنبي. أطلقوا العنان "للوحش الرأسمالي"، كما يقولون، ودعوا "اليد الخفية" تعمل عملها.
لكن النقاد سارعوا بالقول إن "النمور الآسيوية"، التي قُدمت كدليل على نجاح هذا النهج، لم تكن يومًا مثالاً للسوق الحرة، بل كانت "دولاً تنموية" قادت فيها حكومات استبدادية عملية التصنيع بقبضة من حديد. وهكذا، انتهى القرن العشرون كما بدأ، بنقاش حاد حول دور الدولة والسوق، وبسؤال أكبر يلوح في الأفق: هل هناك أسباب أعمق، جذور أقدم، تحدد مصائر الأمم؟

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

للزوجات مع اقتراب موسم الدراسة.. من يملك قرار التعليم بعد الطلاق؟

ختام موسم حصاد القمح بالوادى الجديد .. توريد 568 ألف طن قمح للصوامع بنسبة 109% وزيادة 65 ألف طن عن العام الماضى.. تنفيذ 1200 حقل إرشادية بأفضل أنواع التقاوى وإجمالى المساحة المنزرعة 343 ألف فدان

"الرابر" يشعلون حفل مهرجان العلمين ناصر وخالد على وديزى توو سكينى.. ويجز يتألق بأغانى ألبومه الجديد.. ومفاجأة الحفل صعود آسر ياسين وتارا عماد ومايان السيد أبطال فيلم "وتر واحد" على مسرح يو أرينا

السبت.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ربيع الأول لعام 1447 هجريا

اليوم.. نظر محاكمة 9 متهمين بخلية "ولاية داعش الدلتا"


عبد الرحيم دغموم ينافس زيزو على صدارة هدافى الدوري المصري

وفاة الفنانة المعتزلة سهير مجدى

سيدة تلاحق زوجها بدعوى طلاق بعد رفضه الإنفاق عليها.. تعرف على التفاصيل

المتهم بإدارة كيان تعليمى وهمى: أوهمت الضحايا بشهادات معتمدة

حجز عاطل بتهمة تصنيع الأسلحة البيضاء والاتجار بها


قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا

موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية

الترسانة يتعادل مع السكة الحديد سلبيا فى قمة الجولة الأولى لدورى المحترفين

حسام حبيب ينفى عودته لشيرين والمطربة تتوعد محاميها السابق ببيان

قرار مهم من ديانج بخصوص تجديد عقده مع الأهلى.. اعرف الحكاية

وزارة الصحة: توقيع 3 اتفاقيات بقيمة 36 مليون يورو لدعم تصنيع اللقاحات

صحتك بالدنيا.. مخاطر "روبلوكس" على الأطفال.. هل يصاب البالغون بسكر النوع الأول بشكل مفاجئ؟.. علماء يكتشفون رابطا بين الخرف وسرطان البنكرياس.. وعادات يومية غير متوقعة ترفع ضغط الدم

النني وإبراهيم عادل يتصدران تشكيل الجزيرة ضد الشارقة بالدوري الإماراتي

نقل مباراة الزمالك وفاركو إلى استاد السلام بدلا من هيئة قناة السويس

أخبار مصر.. ارتفاع طفيف ومؤقت فى درجات الحرارة غدا والعظمى بالقاهرة 38 درجة

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى