خالد دومة يكتب: العهد 4: بداية التيه

خالد دومة
خالد دومة

خرجت كعادتي أتلمس طريقي نحو الحياة، أخذتني قدمايا إلى طرق أخرى غير ما تعودت، آخذا بنصيحة نفسي، مشيت بين المساحات الشاسعة من الأرض الخضراء، والحقول المترامية الأطراف، والهواء ينعش وجهي بطراوته، جلست على حافة المدينة حيث المياة الجارية، أتامل مجرى المياة، التي لا تقف وتشق طريقها نحو المجهول، فلا تدري إلى أي أرض تستقر في نهاية الأمر، المهم أنها تصل إلى حد معين، تستقر فيه، أما أنا فلا أدري ولا علم لي بنهاية، ولم تأخذني قدمي إلى نهاية طريق، وكلما أوصلتني إلى نهاية طريق، إنما هي تسلمني إلى بداية طريق أخر، ومنذ أن بدأت في البحث وهي تراوغني على أمل ولا أمل، تشير إلي أنه على مقربة، فإذا  قطعت آلاف الآميال، أشارت إلى أخرى وهكذا، كان الوقت أصيل تكاد تودع الدنيا شمسها، لتتركنا في ظلام، تذهب لتنير لآخرين، بعد أن أنارت لنا عالمنا ساعات، ثم هي تعود في وقتها من اليوم التالي، كنت أرقب تلك الأشعة الحمراء التي وقعت على عيني كلون الدم، وخطر في بالي أن الشمس تنزف، أن أشعتها الحمراء دمها المسفوك، ولعلها الآن تئن وتتألم، وأن رحيلها موت، وأنها لن تأتينا في موعدها المعتاد، الشمس تموت كما مات أبي، أيعقل هذا، تنطفأ كما أنطفأ نور أبي، تصبح جثة هامدة، وبعد أيام ينتفخ جوفها، وتأكلها هوام، بعد أن تتعفن وتنشر رائحتها، فتملأ الكون برائحتها، التي لا تطاق، يقف حولها بنيها الصغار، النجوم التي ما تزال في الصبا، يغلي جوفها بالحركة والنور فتبدد الظلام، الذي يغشاها فتهيم في الفضاء، فتتخبط ثم يبكي الكون من حولها، ويصير عويل عظيم تصل صراخاته لنهاية الفضاء، الذي لا نهاية له، وقفت أتامل اللحظات الأخيرة، وهي تتوارى خلف الجبال والرمال، وقد سرح خيال وأظنها وقعت ببطء، وتلفظ أنفاسها المتبقة باكية، وتلتقي دموعي بدموعها في لحظة واحدة، إذ بي أسمع صوت قادم من بعيد، صوت رجال، تقدمت نحوه في وجل، إنه كوخ صغير، يخرج منه دخان، أظنه بخور له رائحة قوية عطرة، تلصصت من النافذة، بعضهم جالس، وأخرون قائمون يذكرون، تتعالى أصواتهم بالذكر، تهتز أجسادهم بقوة، وأرواحهم تحوم حول أجسادهم فوق الرءوس، أعينهم مغمضة وءوسهم تكاد تتحرر من فوق أجسادهم، من شدة اهتزازها، لمحني شيخ مهيب الطلعة، جالس في أحد أركان الحجرة، أشار إلي بأن أدخل، أشار ناحية الباب، فتحت الباب، لم يهتم أحدا لدخولي، كل على ما هو عليه، كأنهم سكرى، لا يدركون ما يحيط بهم، أشار لي أن أجلس بجواره، كان شيخا في الستين أو أكثر قليلا، وجهه أبيض، بل شديد البياض، على سماه السماحة والطيبة، يشير إليك بالشيء كأنه أمر، لا تملك إلا ان تنفذه طائعا سعيد بما يمليه عليك، كأنه يؤسرك، يعلي من مقامك، أستغرب من نفسي ذلك الإنقياد لأوامره، ولكنني أشعر براحة تتسرب إلى قلبي وعقلي، عندما أجلسني بجواره، لامس كفه رأسي وأخذ يمسح رأسي بها، وهو يدمدم بكلمات لا أعرف معناها، ولكني أستشعر أثرها في نفسي، ودفئا غريبا، بعد أن كنت أرتجف منذ قليل، وأنا أخطو بقدمي ناحية الكوخ وبعد دقائق قام، فأحضر لي طعاما، وكوب من ماء، أشار بعينيه أن أتقدم وأمد يدي إلى الطعام، كان الجوع قد بلغي بي مبلغه، فأذهلني عنه ما رأيت، وما سمعت، مددت يدي فأكلت كل ما في الطبق، وشربت الماء، وكلَ لازال هائم في عالمه، وبعد ساعة بدأت الأرواح تعود إلى أجسادها مرة أخرى، تعود إلى عالمنا الأرضي، بعد أن ساحت في رحلة علوية إلى السماء، تستكشف وترى وتتأمل وتعتبر، وتعود محملة بميراث علوي، يفيض عليها من النعيم في عالمها الأرضي، حتى لا يطغى جسدها على روحها، فينسيها الحق، ينسيها إنما هي ساعية إلى ذلك العالم، ذات يوم، فلا ينبغي لها أن تنسى، لعلهم كانوا حيارى فاهتدوا إلى عالمهم، اهتدوا إلى المعرفة التي أبحث عنها، أريدها وتشقى نفسي للوصول إليها، وأنا حائر لا قرار لها، أيكون هذا الباب هو البداية، التي تصل بي إلى الراحة، إلى بداية اليقين، الذي أريد، أن يكون اليقين هنا في هذا الكوخ، مع هؤلاء الناس، واضح فيما يفعلون ويقولون، يقينهم بكل ما يحيط بهم، لعلي أصل إلى ما وصلوا إليه، أستطيع أن أسلك دروبهم، وأفعل ما يفعلون، لعل الأيدي التي تمتد إلى، تسعفني في أمر حيرتي، هدأت أرواحهم ونفوسهم وسكنت وجلسوا في حلقة حول الشيخ، كأنه هالة من نور، تضيء وجوههم وأرواحهم، أدبهم جم، بين يدي شيخهم، أنظارهم معلقة بلسانه، وقلبه موصول بقلوبهم، تقيدت أرواحهم بروحه، وتملي عليهم أورادهم، ذاهل أنا فيما يدور حولي من أمور أراها للمرة الأولى، لماذا يعيش هؤلاء الناس في الخفاء؟ وهم يجتهدون من أجل أرواحهم، من أجل الإتزان النفسي والإنساني، وحتى لا تلهي الإنسان دنيا الناس وهم يطعمون أرواحهم، كما يطعم الناس أجسادهم، فلا يلام على من يعبدون الجسد، أم من يعلو صوت أرواحهم، يفرون بها إلى العراء، حيث لا تراهم عيون لعلهم يقصدون ذلك، فهم يبتعدون عن الضجيج، وعن الزحام، وعن أصوات الناس، حتى يتفرغوا إلى ما جاوا من أجله، فلا تلهيهم طاقات الأجسام، فتنتصر على طاقات الروح، كنت صامت أتسال بيني وبين نفسي، من أنت أيها الشيخ، كي تنال من كل هؤلاء التبجيل والطاعة العمياء؟ ماذا بداخلك؟ ونحن لا نعرفه، أفكر ثم أنظر إليه، أسرح بخيالي، وعيناي تحملقان فيه، وكأنه يسمع حديث نفسي إلى نفسي، ويجيب عنها بعينه وإشارته، يرفع أصبعه السبابة ويشير بها إلى أعلى، كأنه يقول لي وصلت إلى ما تسأل عنه بفضل الله، به هو بالقرب منه، بنفسي التي وهبتها، والتي عادت إلى مصدرها، بذوباني فيه، بإندماجي في كينوته، بالعودة إليه بعد حرب خضتها مع نفسي، لأنتصر في نهاية الأمر عليها، وأقودها ذليلة إليه أقدمها قربان له، الذي وهبني إياها، كانت عينيه تنظر إلى الأرض لحظة وإلى السماء لحظات، والكل في سكون يتلقى من القلب إلى القلوب، حديث أرواح ومحاضرة قلوب، ليس للكلمات كبير مساحة، إنما هي قليلة مقتصدة، يلقي بالكلمة فيفهم الاتباع منها كلمات، وإشارات وعبارات وقواعد وأصول ومرامي، فلم أعي كثير مما يقال إنما هي كلمات في عقلي تنم عن شيء، ربما لا أعرفه، ولكنها تتردد في عقلي، كلمات مبهمة غير متماسكة، ولكن شعور ما يداخلني، بأن ما يقول ذو شان عظيم، لم يكن في داخلي، ففي أعماق هؤلاء يتجول فيهم، ويترك أثرا ضخما عندهم، لحظات صمت، ثم يهمس أحدهم وتتعالى الضحكات، عدنا إلى الدنيا وأبتهج وجه الشيخ وفترت شفتاه بالضحك، ورغم ذلك فعلى وجهه وقار، تنعقد سحائب الدخان في سقف الكوخ، ويخرج من النافذة يتكاثف ويحل محل البخور، وما بين حديثهم الدنيوي يذكر بعضهم بعضا بقصة من الأثر، تلقي عظة، فتعلو أصوات التكبير والإنبهار، قد يسمعها أخرون، فيهدم ما فيها من عبرة، أو يظنها خرافة، ويسخر مما يقبلونها بهذه السذاجة، ولا يحكم عقل أو منطق في قبولها، أو رفضها، ولكن هم يعرفون ما بها، وأنهم يتلقونها كما يقولون عن قلوبهم وأراوحهم، فهذه أشياء لا تعرف العقل أو المنطق، لأنها أعلى منهما، فالعقل عضو قاصر على إدراك الأشياء، التى تدركها بالنفس، وليست أي نفس، فالنفس لها طرائق وأنواع ومراحل، قد تغيب عن الكثيرين، فلا ترى بعين ولا تدرك بعقل، كانت صفحات تتقلب في مخيلتي كل لحظة، لتفضي إلى صفحات أخرى، وخيالى يتسع ويناقش ويحلل ويرجو بين ذلك كله، ألا يتوه أو تعبث به الأفكار  والظنون.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

آسر ياسين يصعد على المسرح مع ويجز بحفله فى العلمين.. ويدخلون فى وصلة هزار وضحك

ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه.. صور

موعد مباراة الزمالك أمام فاركو بالدوري المصري والقناة الناقلة

مدحت صالح من مهرجان القلعة: أجمل يوم فى السنة اللى باجى فيه هنا

ويجز يشعل حفل مهرجان العلمين بأغنية "خسرت الشعب".. صور


مواعيد مباريات منتخب مصر مواليد 2005 فى كأس العالم للشباب 2025

محمود وفا حكما لمباراة الاتحاد والبنك الأهلى والسيد للإسماعيلى والطلائع

محمد طاهر: الكرة من أفضل أدوات التسويق ورعاية للزمالك لدعم الأندية الشعبية

الأهلى يواصل تدريباته استعدادا للمحلة وجلسات خاصة من ريبيرو

موعد انطلاق العام الدراسى الجديد بالمدارس الدولية والرسمية


وزارة النقل تنفذ 71 كوبرى بمسار الخط الأول للقطار الكهربائى.. الانتهاء من كوبرى خور مايو العملاق بارتفاع 90 مترا.. وصول أول قطار فيلارو سريع إلى مصر خلال شهر.. وكامل الوزير: عمال مصر ينفذون ملحمة عظيمة.. صور

العالم هذا المساء.. دولة الاحتلال تمنع عمدة برشلونة من الدخول بسبب موقفه من إبادة غزة.. إعلام إسرائيلى: 3 انفجارات ضخمة تهز وسط إسرائيل.. وزير خارجية هولندا يستقيل من منصبه بعد جدل بشأن العقوبات على تل أبيب

اعرف موعد تصويت المصريين بالخارج في جولة الإعادة بانتخابات الشيوخ

إعلام إسرائيلى: 3 انفجارات ضخمة تهز وسط إسرائيل

اليوم الأسود للطيران..غدا ذكرى سقوط 3 طائرات ومصرع 194 شخصا..وغموض حول فاجنر

نقل مباراة الزمالك وفاركو إلى استاد السلام بدلا من هيئة قناة السويس

أخبار مصر.. ارتفاع طفيف ومؤقت فى درجات الحرارة غدا والعظمى بالقاهرة 38 درجة

اتحاد الكرة يعتمد التشكيل الجديد للجنة الحكام

موعد مباراة الزمالك القادمة فى الدوري أمام فاركو والقناة الناقلة

أمريكيون شاركوا فى استهداف ضحايا غزة.. شاهد عيان يكشف لـ"CBS" تفاصيل صادمة

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى