أسماء نصار تكتب: كوارث بلا جنسية.. تغير المناخ أزمة لا تعترف بالحدود الجغرافية أو السياسية.. الجميع يدفع الثمن.. فيضانات عنيفة فى الشمال وجفاف قاتل فى الجنوب.. والعالم يتجادل حول نسب خفض الانبعاثات والتمويل

فى زمن أصبح فيه الحديث عن التغير المناخى جزءًا من النشرات الجوية اليومية، تجاوزت الأرض مرحلة التحذير ودخلت طور الانهيار البطىء، لم تعد الكوارث المناخية نادرة الحدوث أو محصورة فى دول الهامش، بل باتت تصفع الجميع، شرقًا وغربًا، جنوبًا وشمالًا، فى شكل فيضانات مدمرة هنا، وجفاف قاتل هناك، وحرائق هائلة تلتهم الغابات والمدن، وارتفاع درجات الحرارة التى تكسر الأرقام القياسية باستمرار، بالإضافة إلى العواصف الشديدة والتصحر ، وتغير أنماط الأمطار التى تؤثر على المحاصيل والزراعة، وتبدو الصورة كأنها نبوءة سوداوية تتحقق، لكن بوضوح وتفاصيل يومية لا تترك مجالًا للشك، الأرض لم تعد كما كانت، والطبيعة تمردت على صمتها الطويل.
فى مشهد درامى لم يكن ليتخيله أكثر المتشائمين، أصبحت الأرض ساحة لصراخ مناخى تتردد أصداؤه من سهول إيران الجافة إلى أودية باكستان وأحياء أوروبا الغارقة، إلى سهول أفريقيا القاحلة التى تعانى من تصحر متسارع ونقص مريع فى المياه، وصولاً إلى أعماق أمريكا التى تشهد فيضانات مدمرة وأعاصير شديدة القوة تترك وراءها دماراً هائلاً.
الكوارث المناخية لم تعد مجرد تحذيرات أكاديمية أو تقارير علمية مملة تهمل فى أدراج الحكومات، بل تحولت إلى واقع يومى يعصف بحياة الشعوب، ويهدد البنى التحتية، ويعيد رسم خريطة المخاطر على كوكب يبدو وكأنه ينذر بانفجار وشيك، قد لا يسلم منه أحد.
من فيضانات باكستان وألمانيا والصين، إلى جفاف إيران وانهيار أرضها حرفيًا، نحن أمام حالة تمرد شاملة من الطبيعة على قرون من الاستغلال البشرى الجائر، وبينما تصرخ الأرض، لا يزال العالم يتجادل حول نسب خفض الانبعاثات وأولويات التمويل المناخى، وكأن البشرية تملك ترف الوقت أو رفاهية التأجيل.
ما يجرى فى طهران، من جفاف السدود وتضاؤل المياه الجوفية، ليس نتيجة التغير المناخى فقط، بل هو نتاج مركب لسوء الإدارة البيئية، والفساد، والسياسات العشوائية التى تجاهلت التحذيرات لعقود، وفى المقابل، فإن ما تعانيه دول أوروبية مثل ألمانيا وإيطاليا من سيول جارفة يعكس أن حتى الدول المتقدمة ليست بمنأى عن الكارثة إن لم تواكب التغيرات المناخية المتسارعة بخطط جذرية واستباقية.
ففى آسيا، اجتاحت الفيضانات الشرسة مناطق واسعة من باكستان والصين، مخلفة مئات الضحايا ودمارًا في البنية التحتية والمنازل، و لم تسلم أوروبا من المشهد، حيث غرقت مدن كاملة تحت أمطار غير مسبوقة، واضطرت الحكومات إلى إعلان حالات الطوارئ وتحريك فرق الإنقاذ، وفى قلب هذه الكوارث، تبدو المدن عاجزة تمامًا أمام قوى الطبيعة، فالبنية التحتية القديمة، والتوسع الحضرى غير المنضبط، وسوء أنظمة الصرف، كلها عوامل عمقت آثار الفيضانات، وجعلتها أكثر فتكًا.
فى الجهة الأخرى من العالم، تئن إيران من جفاف قاس وصل إلى حد الانهيار البيئى، فخزانات المياه فى طهران تنضب بوتيرة مقلقة، والأمطار تراجعت بنسبة تجاوزت 40%، ما دفع البلاد إلى حافة العطش، المزارع تذبل، والهجرة الداخلية تتزايد، بل إن الأرض نفسها بدأت بالانهيار، مع تسجيل هبوط أرضى يصل إلى 31 سنتيمترًا سنويًا، نتيجة الإفراط فى سحب المياه الجوفية دون رقابة، و الكارثة فى إيران ليست مناخية فقط، بل هى إدارية وسياسية بامتياز، حيث فشلت الحكومات المتعاقبة فى إدارة الموارد الطبيعية، وتمادى المسؤولون فى تجاهل التحذيرات، ليجد السكان أنفسهم أمام أزمة وجود حقيقية.
وعلى الجانب الآخر، تعيش أفريقيا مأساة من نوع مختلف، حيث تشهد مناطق شاسعة في شرق وجنوب القارة موجات جفاف متكررة أدت إلى فشل محاصيل الغذاء ونقص حاد فى المياه، مما أدى إلى تفاقم أزمات الأمن الغذائة والنزوح السكانى، بينما تواجه غرب أفريقيا فيضانات مفاجئة أغرقت القرى والمدن، وعطلت حياة الملايين.
وفى مناطق مثل الساحل والصحراء الكبرى، أدى التصحر المتسارع إلى فقدان مساحات واسعة من الأراضي الصالحة للزراعة، مما يزيد من هشاشة المجتمعات المحلية ويهدد استقرارها.
أما فى أمريكا، فتشهد الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية سلسلة من الكوارث المتصاعدة، من الأعاصير الشديدة التى تضرب السواحل وتسبب دمارًا واسعًا، إلى حرائق الغابات المدمرة فى غرب الولايات المتحدة والبرازيل التى تلتهم مساحات شاسعة من الغابات المطيرة، مما يساهم فى تسريع وتيرة الاحتباس الحرارى، كما أن موجات الحر الشديدة والجفاف فى بعض مناطق أمريكا الوسطى تؤثر على الإنتاج الزراعى وتزيد من معدلات الفقر.
وما بين الفيضانات العنيفة فى الشمال، والجفاف القاتل فى الجنوب، تتضح الحقيقة الكبرى، تغير المناخ لم يعد أزمة محلية، بل أزمة كونية لا تعترف بالحدود الجغرافية أو السياسية، و الدول النامية تدفع الثمن بمواردها المحدودة، والدول المتقدمة تدفعه أيضًا، وإن كان بوسائل مختلفة، فالخطر لا يميز بين غني وفقير، ولا بين متقدم ومتأخر، و السبب الجذرى واضح، ارتفاع حرارة الأرض بفعل النشاط البشرى غير المنضبط، والغياب المروع للجدية العالمية فى الحد من الانبعاثات الكربونية، وتغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك الجشعة.
وما يفاقم المشهد أن آثار هذه الكوارث تتجاوز الخسائر البشرية والمادية المباشرة، لتطال أركان الحياة كلها، فهناك فقدان متزايد فى الأرواح والممتلكات، وتوسع للنزوح الداخلى كما يحدث فى طهران حيث يتجه السكان شمالًا هربًا من التصحر، و القطاع الزراعى فى دول عديدة بدأ ينهار، مما يهدد الأمن الغذائى الإقليمى والدولى، و التراث الإنسانى أيضًا فى خطر، من آثار مدينة برسبوليس الإيرانية إلى المواقع التاريخية الأوروبية، التى باتت مهددة بالاندثار تحت أمواج المياه أو رمال الجفاف.
ومع تزايد الاحتجاجات الشعبية، كما فى إيران، يبدو أن المناخ أصبح وقودًا جديدًا لغضب الجماهير، وسؤالًا سياسيًا يطرق أبواب كل نظام حاكم.
رغم سوداوية المشهد، لا يزال الوقت موجودًا - وإن كان يضيق- للرد، و التحرك لم يعد خيارًا بل ضرورة وجودية، تتمثل فى تحسين إدارة الموارد المائية فى الدول المتضررة، وبناء بنى تحتية مقاومة للفيضانات، وتمكين المجتمعات المحلية من المشاركة فى القرار البيئى، كلها خطوات أساسية، كما أن التحالفات الدولية ليست ترفًا، بل حاجة ملحة، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتمويل ونقل المعرفة والتكنولوجيا.
فى النهاية، ما نعيشه اليوم ليس مجرد ظاهرة مناخية، بل هو نتيجة اختلال عميق فى العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وفى نظام عالمى لا يزال يضع الاقتصاد فوق البيئة، صرخة الكوكب لا تأتى فقط من الأمطار الغزيرة أو الجفاف القاتل، بل من نهر يجتاح مدينة، ومن سد يجف، ومن أرض تهبط من تحت أقدام سكانها.

Trending Plus