بيشوى رمزى يكتب: مصر أعادت تشكيل هندسة الإقليم.. تستعيد صدارة فلسطين على الأجندة الدولية.. القاهرة فتحت باب الشراكة.. استبقت أزمة غزة بانفتاح إقليمي على العالم.. ودفعت العالم للاعتراف بفلسطين

الأزمة التي يشهدها قطاع غزة، منذ ما يقرب 22 شهرا كاملة، لعبت دورا محوريا في كشف التغييرات الكبيرة في البنية السياسية في منطقة الشرق الأوسط، في إطار العديد من الأبعاد، والمستجدات، التي أضفت المزيد من الزخم لتلك الرقعة الجغرافية، ربما أبرزها حالة الإجماع الإقليمي، في مواجهة الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وضرورة التوصل إلى صيغة من شأنها وقف إطلاق النار، لينطلق منها الإقليم بأسره، نحو الحديث بصوت واحد، حول ضرورة الانتصار للشرعية الدولية القائمة على حل الدولتين، باعتباره ضرورة ملحة، ليس مجرد رفاهية سياسية، إذا ما أراد العالم تحقيق الاستقرار المستدام في منطقة عانت ويلات الحرب لعقود طويلة من الزمن.
التغيير الجذري، الذي ساد الرؤية الإقليمية، التي هيمن عليها الانقسام لعقود طويلة، بين فريق "ممانع"، وآخر وصموه بـ"الاعتدال"، كان في حاجة إلى قيادة إقليمية، لا تحمل إرث المفاهيم الدبلوماسية التقليدية، التي خلفتها حقبة الحروب العالمية، وما بعدها في ظل الحرب الباردة، والتي كانت تعتمد على فرض الرؤى والمواقف والسياسات، من قبل "الدولة القائد" على أعضاء التحالف، وإنما قيادة تقدم نموذجا للكيفية التي يمكن بها مواكبة العالم الجديد، وهو الأمر الذي تمكنت الدولة المصرية من صياغته، مستبقة به أحداث السابع من أكتوبر بسنوات، عبر بناء شراكات محدودة قابلة للتوسع، سواء في داخل الإقليم أو خارجه.
النهج المصري، في جوهره، ساهم في تعزيز مسارين متوازيين، أولها مرتبط بالداخل الإقليمي، عبر تحقيق قدر من التوافق بين أطراف المعادلة الإقليمية، والذين سقطوا في مستنقع التنافس، أو ربما الصراع، لسنوات طويلة، مما يخدم القضايا والمصالح المشتركة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، بينما ارتبط المسار الثاني بتحقيق انفتاح إقليمي على العالم الخارجي، في إطار شراكات جمعت أطراف من مناطق جغرافية مختلفة، على غرار منتدى غاز شرق المتوسط، والذي انطلق بشراكة ثلاثية بين مصر واليونان وقبرص،وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تعزيز حلقات التواصل مع قوى مؤثرة في المجتمع الدولي، وتقديم صوت إقليمي موحد في المحافل الدولية، تحكمه المصالح والمشتركات، وليس الصراع أو التنافس.
الرؤية المصرية القائمة على تعزيز الشراكات سواء داخل الإقليم أو خارجه، لعبت دورا بارزا في صياغة موقف إقليمي موحد، لا يقوم على التنافس بين القوى على صناعة "أدوار" وهمية، بينما اعتمدت بصورة كبيرة على تعزيز التعاون بين جميع أطراف المعادلة الإقليمية لتقديم ما لديهم، وهو ما يبدو في الثنائيات التي اعتمدتها القاهرة في مختلف مراحل العدوان، إيمانا بقدرة الجميع على العمل، من أجل القضية المركزية، منها ثنائية الوساطة بين مصر وقطر، والتي تلعب دورا رئيسيا في وقف إطلاق النار، بالإضافة إلى ثنائيتها مع الأردن، والتي تتصدى لمحاولات التهجير وحماية المقدسات الدينية، بالإضافة إلى الشراكة مع المملكة العربية السعودية، في تنظيم القمم الدولية، وإقامة المؤتمرات التي من شأنها الانتصار لفلسطين، وهو ما يعني تنحية مفهوم "الدولة القائد" جانبا، انطلاقا لمفاهيم جديدة، تقوم في الأساس على تعزيز الشراكات، باعتبارها السبيل الأنجع لتحقيق الأهداف والمصالح المشتركة.
الشراكات التي خلقتها الدولة المصرية، لم تقتصر على الداخل الإقليمي، وإنما امتدت لمناطق أخرى، مما ساهم في خدمة القضية، عبر دخول أطراف من خارج العالم العربي والإسلامي، على خط المواجهة مع الاحتلال، وهو ما بدا أولا مع بزوغ الدور الذي تلعبه جنوب إفريقيا، عندما قدمت دعوتها ضد الاحتلال أمام محكمة العدل الدولية، ثم ظهور أطراف غربية أوروبية، تغيرت مواقفها من الدعم المطلق للاحتلال إلى الانتصار للشرعية الدولية، على غرار إسبانيا والنرويج وسلوفينيا وآيرلندا، ومؤخرا فرنسا، وهو ما يمثل ثمرة مهمة للجهود الدبلوماسية التي بذلتها الدولة المصرية، لتحقيق انفتاح إقليميا على العالم، كان من شأنه ليس فقط وصول صوت القاهرة ورسالتها، وإنما كافة القوى الإقليمية المؤثرة الأخرى، انتصارا لقضايا المنطقة المركزية.
وعبقرية منهج الشراكة، يتجلى في كونه لا يغلق الباب أمام أي طرف، مهما بلغت الخلافات معه، في إطار المواقف والانحيازات، فيما يتعلق بالقضية، وهو ما يعكس إدراكا عميقا بأهمية تحقيق التوافقات مع كافة الأطراف الأخرى، سواء الدولية والإقليمية، وهو ما يبدو في العلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة، والتي تعد شريكا في محادثات الوساطة في وقف إطلاق النار، ناهيك عن النداءات المصرية المتكررة بأهمية دور واشنطن، باعتبارها القوى الأبرز، في النظام الدولي، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن النهج المصري لا يقوم على الخصومة تجاه أحد، حتى في ظل وجود الخلافات، وإنما يعتمد منهج "الند بالند"، في إطار الاحترام المتبادل.

Trending Plus