خالد صلاح يكتب: موجز تاريخ المزايدات السياسية فى العالم العربى.. كيف دفع المصريون والعرب ثمنا غاليا للخطاب السياسى الحنجورى؟

كنت فى حوار مع الرئيس اليمنى الأسبق على ناصر محمد بعد سنوات طويلة من رحيله عن السلطة فى بلاده، وخلال فترة إقامته فى القاهرة، وقد كان الرجل ذكيا وأمينا ويميل إلى المراجعة السياسية إلى الحد الذى كان ينتقد فيه ذاته، وآليات حكم اليمن فى عهده، وأتذكر أن الرجل قال لى وهو يضحك بقوة (لقد كنا نخزن القات، ونتخذ القرارات) وبعيدا عن شرح ما هو القات فى اليمن، وما هو تأثيره المخدر، فالمعنى الذى أراده الرجل أن القرارات فى هذا العصر كانت تصدر دون دراسة ودون رؤية، وكأن القيادة السياسية خاضعة لنوع من المخدرات، وتتهور نحو قرارات حسبما تطلبه الجماهير، وما تفرضه حلبة المزايدات السياسية بين القادة المتنافسين لا وفقا لما تتطلبه المصالح العليا للبلاد، وقد كان هذا النوع من التهور سببا فى اندلاع حرب أهلية فى اليمن ضاعت فيها آلاف الأرواح، وتقاتل أهل البلد الواحد، وانتهى حكم على ناصر إلى الأبد، ولم يتعاف اليمن من كبواته المتكررة حتى اليوم.
أتذكر هذه القصة وأنا أتابع حلبة المزايدات السياسية الرخيصة التى تشتعل بخطابات حنجورية حمقاء عبر شاشات بعض الفضائيات العربية، أو فى تحليلات سياسية لخبراء إما سذج، وإما جهلاء، أو عملاء لا يريدون لهذه الأمة أن تنشغل بالتنمية، وبمصالح الشعوب، لكنهم يحرضون الناس على المزيد من الغضب، والمزيد من العنف، والمزيد من الاقتتال، ودفع الخطاب العام إلى أقصى درجات الحماسة والتطرف بدافع التنافس على الوطنية أو الشرف القومى أو الدين دون حساب الكلفة أو التبعات العملية أو الثمن الذى تدفعه الشعوب من أرواحها وأقواتها ومستقبلها.
ولا يكفى هؤلاء الجهلاء والعملاء ما دفعته مصر والعالم العربية من أثمان باهظة عبر عقود ممتدة بسبب الخلل فى التقديرات الاستراتيجية لصراعات المنطقة، ولغة (الحنجرة السياسية) التى تكسر رقبة الحقائق من أجل حزمة من الشعارات الفارغة.
لن أفعل شيئا فى هذا المقال أكثر من تقديم إحصاء موجز لتاريخ المزايدات السياسية التى وقعت فى مصر والعالم العربى، وكيف كان استعلاء الخطاب الشعاراتى سببا فى المزيد من الخسائر، والكثير من التراجع والتقهقر والهزيمة فى قضايانا العربية، ولك أنت الحكم فى النهاية.
إليك بعض الأمثلة:
1. دفع عبد الناصر للحرب فى 1967:
رغم إدراكه بأن البلاد لم تكن مستعدة تماما للحرب، وجد ناصر نفسه تحت ضغط الشارع العربى والإعلام ومزايدات بعض القادة، فقرر خوض المعركة، وكانت النتيجة هى هزيمة يونيو 1967.
2. التدخل المصرى فى حرب اليمن من عام 1962 وحتى 1967:
بحجة دعم الثورة اليمنية ضد الإمامة، أرسل عبد الناصر أكثر من خمسين ألف جندى مصرى إلى الجبال، واستنزف الجيش قبل حرب 67، فقط لإثبات الدور الثورى المصرى فى المنطقة، والنتيجة خسارة فادحة، واحتلال للأرض العربية.
3. طرد قوات الأمم المتحدة من سيناء قبل 67:
خطوة انفعالية غير مدروسة فسرتها إسرائيل بأنها تمهيد للحرب، وجاءت فى ظل نغمة عربية موحدة تطالب ناصر بما أسموه حسم المواجهة مع إسرائيل، والنتيجة تعرفها أنت بالطبع.
4. الوحدة بين مصر وسوريا
تحت ضغط الشعارات الوحدوية تأسست الجمهورية العربية المتحدة فى عام 1958 وعاشت لسنوات قصيرة وانتهت بانقلاب عسكرى عام 1961، وزرع الفرقة بين مصر وسوريا لسنوات طويلة، وانفاق ملايين الجنيهات على شعارات لم تحصد منها شعوب البلدين شيئا.
5. تعامل منظمة التحرير الفلسطينية مع الأردن فى أواخر الستينات (أيلول الأسود):
بدلا من بناء شراكة مع الأردن، تكرست عقلية المزايدة والاحتكام للسلاح والبيانات الحنجورية بين القيادات الفلسطينية والأردن، فكانت النتيجة مذابح دامية، وإخراج منظمة التحرير من الأردن إلى لبنان.
6. المزايدات على السادات بعد زيارته للقدس:
رغم أن اتفاقية السلام أعادت سيناء كاملة دون حرب، إلا أن الخطاب الإعلامى العربى اتهم السادات بالخيانة، وتم تجميد عضوية مصر فى الجامعة العربية، ما أدى إلى عزل سياسى استمر لسنوات، ولو كانت السادات قد مضى فى خطته حتى النهاية، وتحرر قادة العالم العربية آنذاك من المزايدات الساسية لكنا نعيش فى سلام دائم، والفلسطينيون فى دولة مستقلة وذات سيادة.
7. رفض الواقعية السياسية بعد أوسلو:
رغم أن الاتفاق منح الفلسطينيين أول اعتراف دولى وإدارة ذاتية، إلا أن المزايدات من الخارج اتهمت القيادة بالخنوع، دون تقديم بدائل عملية، مما أدى إلى شلل فى القرار الفلسطينى ونهايات حزينة للشعب الفلسطينى حتى اليوم.
8. الدعم العربى لصدام حسين بعد غزوه للكويت (1990):
المزايدات الرخيصة التى أدت إلى دعم عدد من البلدان العربى للقرار الأحمق الذى اتخذه صدام حسين بغزو دولة الكويت، كانت سببا فى انقسام مذهل لم تشف جروحه حتى اليوم، كما كان الغزو بداية النهاية لواحدة من أقوى وأغنى البلدان العربية وهى العراق.
9. الموقف من الثورة الإيرانية عام 1979:
أدت المزايدات الدينية، وألاعيب الإسلام السياسى إلى الترحيب بالثورة الإيرانية وجرى التغاضى عن خطابها الطائفى وتصدير الثورة، تحت تأثير المزايدة ضد الشاه وأمريكا، قبل أن تتكشف الكلفة الإقليمية لذلك الدعم وتلعب إيران أقذر أدوارها الطائفية فى العالم العربى.
10. الحرب فى لبنان عام 1982:
صراعات عربية، فلسطينية، لبنانية تحت غطاء الخطابات الحماسية، أدت إلى اجتياح بيروت وخروج منظمة التحرير دون خطة بديلة، وهروب عرفات والمنظمة خارج لبنان.
11. دعم الحركات الإسلامية الإرهابية فى حرب أفغانستان:
باسم الجهاد ضد الروس دعمت أطراف عربية مجموعات متطرفة للمشاركة فى الحرب فى أفغانستان، وكان النتيجة أن خرجت هذه الجماعات عن السيطرة وانقلب السحر على الساحر، وعاد الإرهابيون الأفغان ليشعلوا موجات إرهاب غير مسبوقة فى مصر والعالم العربى.
12. الانشقاق بين الفصائل تحت شعار الأنقى وطنيًا:
بعض الفصائل استخدمت خطابًا عنيفًا ضد منظمة التحرير متهمة إياها بالعمالة أو التفريط، فقط لتأكيد تفوقها الثورى، دون أن تطرح بديلًا سياسيًا واقعيًا والنتيجة تشظّى القرار الوطنى، وضعف التفاوض، وضياع الدعم الدولى.
13. العمليات الانتحارية بعد أوسلو:
الفصائل التى رفضت اتفاق أوسلو لجأت إلى المزايدة بالدم، وقامت بعمليات أضرت بالرأى العام الدولى، وأعطت إسرائيل ذريعة لتعطيل عملية السلام وقمع الشعب الفلسطينى.
14. رفض خطة مبادرة السلام العربية (2002):
رغم أن المبادرة كانت فرصة لتحريك ملف السلام دوليا، قوبلت بالرفض والمزايدة من فصائل فى الخارج، دون أن يقدموا خطة واقعية بديلة.
15. انشقاق حماس:
فجرت حماس فى الخصومة مع فتح، ووجهت سلاحها لصدور إخوانها فى فتح، وانتزع غزة من تحت سيطرة الدولة الفلسطينية الوليدة، والنتيجة هو هذا الدمار والتهجير الذى تعيشه غزة اليوم.
• تلك بعض الأمثلة، والقائمة طويلة وقد تمتد لمئات الصفحات، وأردت أن أذكرك فقط أن الخطاب المسئول، والالتزام بالرؤية الاستراتيجية وإعلاء مصالح الشعوب هو ما ينفع الناس ويمكث فى الأرض، تذكر ذلك حين تقرأ بوست على فيسبوك، أو فيديو على تيك توك، يريد منك أن تكرر نفس أخطاء آبائك وأجدادك، اكفروا بأصنام الحنجورية التى وجدتم آباءكم لها عاكفون، وليكن صوت مصالح الشعوب العربية أعلى من صوت الحناجرة دعاة الموت والخراب.

Trending Plus