ضحكات وسط الركام.. حكاية مهرجين يقاومون الحرب بالضحك فى غزة.. فرقة صغيرة تعالج المأساة بابتسامات الأطفال.. وعروض البلياتشو والسيرك تتم على أنقاض البيوت.. رحلة فرقة عمو طاطا مع أطفال فلسطين

مهرجون يزرعون الفرح فى زمن الحصار والجوع والخوف ويؤكدون: نحارب الحزن بالضحك
ساعة ضحك قد تعنى لطفل فى غزة حياة جديدة..
كنا نظن أن التوازن على الحبال أصعب مهامنا لكن الحرب علمتنا أن ضحكة طفل فقد بيته أصعب
فى شوارع مدمرة لم يبق فيها سوى رائحة الدمار والخراب الذى خلّفه الاحتلال الإسرائيلى، تظهر بين الركام وجوه ملوّنة ترتدى أنوفًا حمراء وملابس زاهية الألوان، لا تكاد تصدق عينيك وأنت ترى مجموعة من الشباب يحملون معدات بسيطة عبارة عن دمى وطبول، يتجهون إلى ساحات صغيرة عامة تحيط بها الخيام، وحولهم يجتمع عشرات من الأطفال بعيون متعبة وملابس ممزقة بحثًا عن لحظة فرح وسط صخب الحرب، والمستمرة حتى الأسبوع الماضى منذ 7 أكتوبر 2023.
ما نصفه ليس مشهدًا من فيلم أو عرض مسرحى، بل واقع تعيشه «فرقة عمو طاطا»، وهم مجموعة من المهرجين ولاعبى السيرك، لم تمنعهم المآسى فى غزة من استكمال عملهم، لإيمانهم بأن الفرح فى زمن الحرب عمل بطولى لا يقل عن أى دور آخر يقدمه أبناء القطاع المنكوب يوميًا.
أعضاء فرقة عمو طاطا يحملون على عاتقهم رسالة تتجاوز الضحك العابر، فهم يحاولون رسم البهجة على وجوه الأطفال وسط الخيام، ويواجهون الخوف بالموسيقى، والجوع بالضحك، واليأس بالقفزات البهلوانية. إنهم يصرون على أن الطفولة لا يجب دفنها تحت الأنقاض، وأن غزة، رغم كل الجراح، لا تزال قادرة على الحياة.
غزة حاليًا تُصنّف كواحدة من أكثر الأماكن قسوة على وجه الأرض، فهى تعيش حصارًا طويلًا وقتلًا ودمارًا يوميًّا وانعدامًا للأمن الغذائى بصورة مرعبة، ووسط كل هذه الأجواء يصبح انتزاع الضحكات بمثابة المعجزة، إلا أن فرقة عمو طاطا قررت خوض المغامرة بلا رجعة، وتعتبر عملها ليس مجرد ترفيهى، كما كان قبل السابع من أكتوبر، إنما علاج نفسى جماعى لكل طفل فقد الأمن والأمان، وبات لا يعرف معنى للحياة.
قوة الفرح فى زمن الحرب
فرقة عمو طاطا تؤدى عملها بأبسط الأشياء المتاحة لها، كـ«زى مهرج قديم»، وحبل متهالك، وسماعة صغيرة، فتلك أدواتهم لمواجهة تعاسة تسببها أعتى آلة حرب، إلا أنهم يؤمنون بأن الفرح مقاومة.
فى أحد عروضهم الأخيرة، تجمع عشرات من الأطفال، بعضهم لم يتذوق طعامًا منذ أيام، لكنهم ضحكوا من قلوبهم وارتفعت أصوات تصفيقهم وسط أنقاض البيوت المحطمة، وكأنهم يعلنون للعالم «نحن هنا، ما زلنا أحياء، نبحث عن لحظة فرح وسط كل هذا الخراب».. لم تكن مجرد ضحكات عابرة، بل كانت صرخة حياة تملأ المكان، وتمنح المهرجين قوة للاستمرار، تجعلهم يؤمنون أكثر بأن ما يفعلونه أعظم من مجرد عرض ترفيهى، بل رسالة أمل وسط اليأس.

مهرجوا غزة
بداية الحكاية
طارق حسن أبوشقير، المعروف باسم عمو طاطا، يبلغ من العمر 28 عامًا، أسس هذه الفرقة منذ عدة سنوات، يحكى عن مهنته قبل وبعد الحرب، وماذا تغيّر فى حياته، ويقول: «أعمل فى هذه المهنة منذ أكثر من 10 سنوات مليئة بالضحك والدموع، ولم يخطر فى بالى أن عملى البسيط، المتمثل فى رسم البهجة على وجوه الأطفال، سيصبح يومًا ما وسيلة لمواجهة الحزن والخوف، نحن نضحك ونرقص ونقفز، لكننا فى داخلنا نعرف أن القصف قد يدركنا، أو يطال هؤلاء الأطفال بعد لحظات فقط من انتهاء العرض».
يحكى «أبوشقير» أكثر عن فريقه، قائلًا: «نحن فريق مكون من 8 إلى 10 أشخاص، نعمل كعائلة واحدة، ولكل فرد دور محدد، من تقديم العروض البهلوانية إلى تشغيل الموسيقى، وتوزيع الألعاب، مرورًا بالرقصات والدمى، وفى كل عرض نُخرج كل طاقتنا لنرسم على شفاه الأطفال ضحكة، فهى آخر ما تبقّى من طفولتهم وسط الظروف المروعة».
ويضيف: «نقيم مهرجاناتنا عن طريق التبرعات، وأحيانًا نتشارك قوت يومنا لنشترى بالونات أو أزياء جديدة، ونجحنا قبل أسبوع فى تنظيم سلسلة عروض فى ساحة السرايا، رغم الأزمة الخانقة التى يعيشها أهل غزة، ورغم الجوع الذى ينهش الأطفال».
يسترجع «أبوشقير» بحزن أيام ما قبل الحرب، قبل السابع من أكتوبر، قائلًا: «وقتها لم نكن نحتاج إلى دعم، كانت الحياة طبيعية نسبيًا، وكنا نعمل فى السيرك ونشارك فى مهرجانات مدارس وفعاليات عامة، ووقتها كان الأطفال يجدون لحظات الفرح بسهولة، بينما اليوم كل شىء تغير. الأطفال جائعون، مرهقون، ينامون فى خيام ممزقة، ومع ذلك نحاول أن نمنحهم ساعة أو ساعتين من الضحك وسط كل هذا الألم».
لم يسلم «أبوشقير» من الوحشية الإسرائيلية، فقد تعرّض لإصابة بالغة تحتاج إلى رعاية طبية خاصة غير متوافرة فى القطاع، الذى يعانى قطاعه الصحى من انهيار غير مسبوق، لذا يأمل فى الخروج إلى مصر لتلقى العلاج اللازم حتى يتمكن من أداء رسالته.

مؤسس فرقة طاطا
أيضًا لم تسلم فرقة عمو طاطا من دوّامة النزوح المستمر، فقد اضطر أعضاؤها إلى مغادرة مواقعهم أكثر من مرة، متنقلين بين الشمال والجنوب بحثًا عن مأوى أو ساحة صغيرة آمنة يمكنهم من خلالها مواصلة عروضهم.
يقول طارق أبوشقير الشهير بـ«عمو طاطا»: «فى كل مرة نحاول الاستقرار بمكان، نُجبر على الرحيل تحت التهديد أو القصف، ونحمل أدواتنا البسيطة وأزياءنا، ونبدأ من جديد».
وتابع: «إن هذا التنقل القاسى ليس سهلًا، خاصة فى ظل نقص وسائل النقل وندرة الوقود، ووسط طرق مدمرة وأماكن مكتظة بالنازحين، وكثيرًا ما نضطر لإقامة عروضنا فى أماكن غير مهيأة، بين الخيام أو قرب الأنقاض، فقط لأن هناك مجموعة من الأطفال ينتظرون لحظة ضحك».
وأوضح أنه «مع كل موجة نزوح جديدة، يخسر الفريق جزءًا من أدواته أو جمهوره، لكنه لا يخسر إيمانه، لأن فى كل ضحكة طفل دليلًا على أن الحياة لا تزال ممكنة، رغم كل شىء»، على حد تعبيره.
يوجّه عمو طاطا- كما يفضل أطفال غزة تسميته- رسالة إلى العالم، قائلًا: «أطفالنا لا يزالون يحاولون الضحك، فنحن شعب يحب الحياة، لذا رغم كل المخاطر لم أتوقف عن هذه المهنة، لأننا نؤمن بأن لحظة الفرح تصنع معجزة».
وفى ظل هذا الواقع القاسى، لا ينسى أعضاء الفرقة توجيه الشكر لمصر على جهودها المستمرة فى إدخال المساعدات إلى قطاع غزة خلال الساعات الماضية، وهو ما منحهم بعض الأمل فى الاستمرار، ووفّر للأطفال ما يحتاجونه من طعام ودواء ليبقوا على قيد الحياة ليضحكوا من جديد، ويقول عمو طاطا: «حين تصل المساعدات ويشعر الناس بأن هناك من لا يزال يهتم، فإن ذلك يمنحنا دفعة لنكمل الطريق، وهذا وحده كافٍ لأن يبعثّ الأمل فى قلوب الأطفال ليعاودوا الضحك من جديد، ما يدفعنا أيضًا لتكملة عملنا الذى أصبح بمثابة رسالة مُهمة لتخفيف أوجاع وآلام الأطفال».

أطفال غزة
موسيقى تحت القصف
إلى جانب عمو طاطا، يقف خالد أبوقُص، «21 عامًا»، يعزف على ما تبقى من أدوات الموسيقى فى غزة، ويرفض التخلى عن فنه رغم كل المآسى.
يقول «أبوقُص»: «لم أكن أتخيل أن تتحول الموسيقى التى أعزفها إلى رسالة حياة فى قلب مأساة، فقبل الحرب، كنت أتنقل بين صالات الأفراح والمدارس والحدائق العامة، وكانت الحياة عادية، وكنا نعود إلى بيوتنا مطمئنين، أما اليوم، فأصبحنا نبحث عن أى مساحة صغيرة وسط الركام لإقامة عرض للأطفال».
يروى «خالد» حكايته مع فرقة عمو طاطا، قائلًا: «نحن فريق نعمل كعائلة، نحاول من خلال عروضنا جذب الأطفال ليصفقوا ويضحكوا رغم جوعهم، ورغم أن عيونهم مرهقة من البكاء وقلة النوم، وأحيانًا، أثناء العرض، أسمع أصوات القصف قريبة، نبحث عن أى شىء نلهى به أطفالنا حتى لا يشعروا بالخوف».
ويضيف: «نحن نعمل فى ظروف غير إنسانية، لكننا نؤمن بأن ساعة واحدة من الفرح قد تُنسى طفلًا معاناته، ولو قليلًا، فقبل الحرب لم نكن نطلب دعمًا أو تبرعات، كنا نكسب قوتنا بعرقنا.. واليوم نحن نعمل غالبًا بجهود ذاتية أو تبرعات بسيطة من داخل القطاع وخارجه، ومنظمات محلية صغيرة»، ويختم خالد حديثه برسالة مؤثرة: «أقول للعالم: أنقذوا الطفولة أنقذوا أطفالنا، فهم يستحقون أكثر من ساعة ضحك وسط القصف.. نحن شعب يحب الحياة، وسنظل نقاوم».
لاعب سيرك على الحبال بين الحياة والموت
فى زاوية أخرى من الساحة، يقف محمود الشيخ، البالغ من العمر 22 عامًا، يقول: «كنت أظن أن أصعب ما سأواجهه هو التوازن على الحبال العالية أو القفز بين الأطواق المشتعلة، لكن الحرب جعلتنى أواجه شيئًا أصعب بكثير، كيف أُضحك طفلًا فقد بيته أو أحد والديه؟».
يضيف «محمود»: «عندما أقف أمام الأطفال وأبدأ حركاتى البهلوانية، أشعر للحظة وكأننى أوقف الزمن، وأعيدهم لطفولتهم المسروقة.. قبل الحرب كانت العروض منظمة، والناس يصفقون من قلوبهم، اليوم نحن نؤدى عروضنا بين الخيام وعلى أنقاض المبانى، فى ساحات مليئة بالمآسى، ومع ذلك تجد الأطفال يركضون إلينا بعيون تلمع بالفرح».
ويتابع حديثه: «نحن نعمل بإمكانيات بسيطة جدًا، نعتمد على التبرعات، وأحيانًا نصنع الأدوات بأنفسنا، ليس لدينا حماية ولا ضمانات، ومع ذلك نواصل، لأننا نؤمن بأن ضحكة طفل يمكن أن تغير العالم، ولو لدقيقة واحدة».
ويوجّه الشيخ رسالته للعالم، قائلًا: «انظروا إلى غزة من زاوية إنسانية، من زاوية هؤلاء الأطفال الذين يحاولون التمسك بالحياة. نحن لسنا مجرد مهرجين ولاعبى سيرك، نحن شهود على معاناة شعب كامل، وسنظل نقاوم بالفرح حتى آخر لحظة».
.jpeg)
طفلة من غزة مع المهرج
مهرجون فى زمن الحرب
ومع كل ما يواجهه أعضاء فرقة عمو طاطا، فهم لا يرون أنفسهم أبطالًا، بل مجرد أشخاص يؤمنون بأن للفرح قيمة، وأن الضحك فى زمن الحروب فعل مقاومة لا يقل أهمية عن أى شكل آخر من أشكال الصمود، هم لا يملكون دروعًا أو أسلحة، لكنهم يمتلكون قلبًا نابضًا بالحب والأمل العنيد الذى لا ينكسر.
فى غزة، حيث يُقاس الوقت بعدد الغارات وعدد الضحايا، تصبح كل دقيقة ضحك بمثابة حياة كاملة مُنتزعة من بين أنياب الموت لا يملكون رفاهية المسرح ولا أمن المسارح، بل يتحركون وسط الدمار، يواجهون الخطر بابتسامة، ويُصرون على أن الطفولة يجب أن تعيش، لا أن تُدفن تحت الركام.
المشهد لا يبعث فقط على الألم، بل يكشف عن جوهر هذا الشعب.. شعب يُحب الحياة حتى فى أقسى ظروف الموت، هؤلاء المهرجون، بموسيقاهم وضحكاتهم وعروضهم البهلوانية، لا يعيدون للأطفال ذكرياتهم فقط، بل يمنحونهم أملا فى المستقبل، ومن وسط الظلام، يصرخون للعالم: «نحن هنا... ما زلنا نضحك، ونحلم، ونقاوم بالفرح».
.jpeg)
العدد اليومى من جريدة اليوم السابع

Trending Plus