مصر تعيد ابتكار دبلوماسية الوساطة.. القاهرة احتفظت بدورها فى "التهدئة" لإنهاء الحرب فى غزة.. وقدمت نفسها كـ"وسيط نموذجى" لإعادة الإقليم إلى الخريطة الدولية.. ورسمت أبعادًا وقائية للدور لتحقيق استقرار مستدام

تبدو الوساطة التي تقوم بها الدولة المصرية، لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ليست بالأمر الجديد تماما، فطالما لعبت هذا الدور لسنوات طويلة، باعتبارها "وسيط تهدئة"، في ظل مناوشات واشتباكات متكررة، بين الفصائل الفلسطينية، والاحتلال، وهو الدور الذي كان مدفوعا بتصور دولي، وبالأساس أمريكي، يقوم على تحديد الدور المصري في هذا الإطار، بحيث لا تنفلت لحظات التوتر إلى أوضاع يصعب احتوائها، دون التحول نحو تحقيق استقرار مستدام، وهو ما نجحت القاهرة في تجاوزه باقتدار منذ أحداث السابع من أكتوبر، والتي وإن أسفرت عن خسائر كبيرة في الأرواح بسبب التعنت الإسرائيلي، إلا أنها كانت كاشفة عن العديد من الأبعاد، أبرزها التحولات الكبيرة في طبيعة الدور المصري من "وسيط" تقليدي، يبزغ دوره مع اندلاع التوتر، إلى نقطة ارتكاز إقليمية.
الدور المصري، الذي تكشفت الكثير من أبعاده، منذ اندلاع أزمة غزة، دار حول العديد من المستويات، وإن كانت ترتكز على مفهوم "الوساطة"، حيث لم تتخلى عن دورها كـ"وسيط تهدئة"، وهو ما يبدو واضحا في محادثات وقف إطلاق النار، التي تقودها القاهرة بالشراكة مع دولة قطر والولايات المتحدة، بينما امتدت وساطتها إلى أبعاد أخرى، حيث أعادت تعريف الدور نفسه، من خلال تقديم نفسها كوسيط بين فلسطين كـ"قضية"، وليس غزة كـ"حالة"، من جانب، والعالم من جانب آخر، وهو ما بدا واضحا في الخطاب المصري منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب في أكتوبر 2023، حيث اعتمدت الدولة المصرية نهجا يقوم في الأساس على الهدف ليس مجرد هدنة بين الاحتلال والفصائل، وإن كانت خطوة ضرورية، ولكن يبقى السبيل لتحقيق الاستقرار المستدام هو الانتصار للشرعية الدولية، وفي القلب منها حل الدولتين.
الرؤية المصرية في هذا الصدد، بدت خارجة عن المألوف، فالخطاب تجاوز اللحظة الراهنة، نحو المستقبل، وهو ما ساهم في تعزيز المواقف التي تبنتها الدولة في مجابهة مخططات الاحتلال في لحظة العدوان، وعلى رأسها مخطط التهجير، فكانت رؤية القاهرة القائمة على حشد المجتمع الدولي لدعم حق الفلسطينيين في بناء دولتهم المستقلة، بمثابة حائط صد مهم أمام محاولات "شرعنة" خطة تفريغ غزة من سكانها، وبالتالي تجريد الدولة المنشودة من أهم عناصرها، وهو المواطن، وهو ما يعكس نجاحا منقطع النظير في إطار المواجهة التي تتبناها الدولة المصرية أمام الاحتلال، خاصة مع تداخل قوى مؤثرة على خط المعركة، منها جنوب إفريقيا، بل وامتدت إلى أوروبا نفسها، عبر سلسلة من الاعترافات المتواترة بالدولة الفلسطينية.
ولعل القضية لم تكن وحدها بحاجة إلى وساطة، فالإقليم برمته كان يحتاج إلى مزيد من الانفتاح على العالم، وهي المهمة التي لم تكن تحتاج وسيطا تقليديا، وإنما ما يمكننا تسميته بـ"الوسيط النموذج"، عبر العديد من الخطوات التي أكسبتها ثقة العالم، بدءً من حربها على الإرهاب، مرورا بتدشينها لـ"معسكر التنمية"، انطلاقا من الداخل، وحتى عقد الشراكات الإقليمية واسعة النطاق، والتي تهدف بالأساس إلى تحقيق الاستدامة، بينما ساهمت في إذابة الخلافات، بين القوى الإقليمية، أو على الأقل تحييدها، لصالح المشتركات، سواء المرتبطة بالمصالح أو القضايا المشتركة، وفي القلب منها القضية الفلسطينية.
و"الوسيط النموذج"، يبدو مستحدثا في دبلوماسية الوساطة الدولية، والتي طالما تبنى أصحابها، في العديد من القضايا الدولية، نهجا انتهازيا، يقوم في الأساس على القيام بدور، يبدو في ظاهره إيجابيا يهدف إلى تحقيق الاستقرار في مناطق التوتر، بينما في واقع الأمر يسعى إلى تعزيز نفوذ الدولة الوسيط، إلى حد سيطرتها على وتيرة الصراع، بحيث يكون مرتبطا، صعودا أو هبوطا، بمصالحها، خاصة وأن الدور المصري سعى إلى تحقيق مصالح جميع أطراف المعادلة الإقليمية، بل والعمل على تعزيز دورها، بعيدا عن المزايدات التي ساهمت في تراجع المنطقة وتأثيرها الدولي وقضاياها، على الأجندة الدولية لسنوات.
الوساطة المصرية امتدت إلى الجانب الإنساني ذو الطبيعة الأخلاقية، وهو ما يبدو في الموقف الحاسم تجاه مسألة المساعدات الإنسانية، بالإضافة إلى الانتهاكات التي ترتكبها قوات الاحتلال، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في زحزحة مواقف الغرب، الذي طالما تبنى خطابات حقوقية لتبرير تدخلاته في شؤون الدول الأخرى، حيث ما يعكس بعداً آخر لدور القاهرة، يتجلى في كونها وسيط أخلاقي، في ظل فراغ يبدو واضحا في السنوات الأخيرة في هذا الإطار، تجسد في الازدواجية التي اتسمت بها سياسات الغرب
الوساطة التي تلعبها القاهرة، منذ أزمة غزة، شهدت إرهاصات قوية قبل اندلاعها، رسمت أبعادا جديدة للدور، الذي تجاوز في واقع الأمر ارتباطه بحالات التوتر العسكري أو الصراع المباشر، ليكون جزءً لا يتجزأ من دبلوماسية استباقية، ذات طبيعة وقائية، تهدف إلى صناعة السلام، من خلال الشراكات، التي من شأنها خلق وتعزيز مساحات مشتركة، تتجاوز من خلالها القوى الإقليمية الخلافات، وهو ما يساهم في منع تفاقمها في المستقبل لتتحول إلى صراعات أو مواجهات مباشرة، وهو ما يحقق الاستقرار في صورته المستدامة، وما يميز هذا المسار، أنه لا يكتفي برد الفعل على لحظات التوتر، بل يُعيد تعريف وظيفة الدبلوماسية ذاتها، عبر توظيف الشراكات كأدوات استباقية لصناعة الاستقرار، لا مجرد احتوائه

Trending Plus