دموع إيزيس التى تروينا

نهر النيل.. هذا النهر العظيم ليس فقط شريان حياة للمصريين، بل هو جزء من البصمة الوراثية لمصر والمصريين.. لا حديث أو حتى همس عن إمكانية أن تفرط مصر في حقها في نهر النيل، الذى كان مقدساً عند المصريين وارتبط حبهم وعشقهم لهذا النهر بحياتهم أحزانها قبل أفراحها وأطلقوا عليه اسم "حابي"، وعلى صفحة مياهه صنع المصرى القديم أول مركب تبحر به شمالاً وجنوباً، تحمله بطول النهر ويقوم في بعثاته الخارجية يفكها والعبور بها إلى البحر المتوسط، فكان أول إنسان على ظهر الأرض أوصل بين البحرين المتوسط والأحمر وبين نهر النيل.
هذا النهر العظيم الذي يأتى إلى مصر لكى يرتاح بعد طول سفر في بلاد ينمو فيها فتياً ويصلنا وقد وهن وضعف ونال منه ما ناله فتفرح الأرض وينبت الزرع وتغرد طيور الحقل على أشجارها وتعلو الفرحة وجه الفلاحين في أراضيهم وهم يرون الخير ينبت بين أيديهم بفضل هذا النهر الخير.
حتى في غضباته وفيضانه تحمله المصرى القديم وأصلح من نفسه ظناً منه أن غضبة النهر لعيب أصابهم، فكانوا يتفكرون في أمور أنفسهم لكى يرضى النهر الغاضب ويعود إلى سيرته الأولى بالخير والنماء على مصر التي بنت حضارة عظيمة لا نقاش في قوتها وعظمتها ...
في نفس الوقت الذي مر فيه هذا النهر على بلاد تريد أن تقتص من حقنا فيه بدعوة أنها بلاد المنبع فماذا فعلت منذ آلاف السنين بهذا النهر، وبأى حق يتحدثون الآن ومصر لم تمنعهم يوماً من الاستفادة به، وكل ما نطلبه هو عدم حرماننا أيضاً من أن نحيا مع النهر الذي بدأت قصة حياتنا معه...
ونهر النيل هو الذي وحد مصر وجعل المصريين يوحدون جهودهم للاستفادة من فيضانه ببناء الترع والجسور.. عاشوا معه حتى عندما كان يضن عليهم بالمياه فيقدمون إليه القرابين وينثرون البخور المقدس لإرضائه.. كانت مياهه هي دموع "إيزيس" التي انسكبت من عينيها حزناً على "أوزير" زوجها وحبيبها..
ووصلت هذه الدموع إلى السماء ونزلت أمطاراً ليجرى منها النهر، فكانت مياهه مقدسة عند الفراعنة لا يمكن لأحد أن يدنس مياهه وجعلوا له رباً حامياً هو "حابي" قدموا إليه القرابين وجعلوه رمزاً للخصوبة والنماء فكان جسده يجمع بين صفات الرجل والمرأة وعلى رأسه تاج من نبات البردى واللوتس يأتي محملاً بالهدايا من مياه النهر وأسماكه يقدمها للمصريين، ونجده مصوراً على كرسى العرش يقوم بتوحيد مصر بربط علامتى الشمال والجنوب.. وكان وجوده مصوراً على كرسى العرش علامة على توحد البلاد سياسياً وحضارياً، ودليل أيضاً على الخير والنماء اللذان سيصيبان البلاد في عهد هذا الملك أو ذاك..
ولقد كان قدوم الفيضان يوم خير على البلاد حرص الفراعنة على الاحتفال به وربطوا بين مجيئه وبين ظهور نجم الشعرى اليمنية في السماء فكان بداية السنة الزراعية التي قسمها المصرى القديم إلى ثلاثة فصول ترتبط بحياة هذا النهر، الأول هو فصل "الآخت" الذي يمثل مجيئ الفيضان وغمر الأرض بالماء وفيه تعطل الأعمال الزراعية لتبدأ الأعمال المعمارية والهندسية العظيمة في البلاد، كذلك يقوم كل بيت بإصلاح ما أفسده مجيئ الفيضان وينشغل المصريون في هذ الوقت بتوصيل المياه إلى الأراضي المرتفعة عبر شبكة ري عبقرية ... وبمجرد انحسار المياه يبدأ فصل الـ "برت" أو "الإنبات حيث يتم غرس البذور في التربة ونمائها ثم فصل الـ شمو" أو "الحصاد" حيث يتم الحصاد وتجهيز الأرض للفيضان القادم...
عرف المصرى القديم ضرورة تأمين حدوده الجنوبية والحفاظ على مياه الفيضان فشيدوا القلاع والحاميات، ومنها مكاناً مخصصاً لمراقبة فيضان النيل وفرضوا الضرائب طبقاً لارتفاع مياه النهر وقاموا بإنشاء مقاييس النيل في كل مكان لكي يحددوا منسوب الفيضان...
كان احتفالهم بعيد وفاء النيل اعترافاً منهم بحق هذا النهر عليهم.. وجعلوا من "إيزيس" ربة الأمومة والخصوبة وربطوها مع نهر النيل فكان معبدها على جزيرة في وسط نهر النيل عند مدخله إلى مصر في الجنوب.
وإذا نحن تجولنا بين صفحات الأدب المصرى سنجد فصولاً وأشعاراً لا تتغنى سوى بمياه النيل وجمال النهر العظيم.. وكانت أقصى أمنية لكل عاشق وحبيب أن يأخذ محبوبته على ظهر مركب للتمتع بنسمات النهر وهدهدة أمواجه.. وقد حدث أن اكتاب الملك سنفرو " أبو الملك خوفو" وشعر بحزن وأراد أن يروح عن نفسه: فماذا فعل؟ أمر وزيره أن يعد له مركباً ويأتيه بفتيات جميلات لكى يتنزه معهن على صفحة البحيرة المجاورة للقصر والتي تحوي مياه نهر النيل، فكان أن جمع بين الماء والهواء والوجه الحسن.. هكذا كان حب المصريين لنهر النيل، كانوا يقسمون أمام الإله في العالم الآخر أنهم لم يدنسوا مياه النهر وقد هذا كان شرطاً أساسياً لكي يدخلون الجنة.. فمن منا لا يريد دخول الجنة؟

Trending Plus