الناقدة اللبنانية رحاب ضاهر تكتب: ثواني بين يدي فيروز

رحاب ضاهر
رحاب ضاهر

 "رأيتُ فيروز". أكتب الجملة الآن وأرتجف، كما ارتجفت حين وقفتُ وجهًا لوجه أمامها في عزاء ابنها زياد. مثل كثيرين غيري ، كنت أتخيل أن فيروز مخلوق من نور ونجوم، أسطورة لا تهبط إلى الأرض… إلا ليلًا، وفي الليالي المقمرة فقط. كان وجودها بالنسبة إليّ دائمًا بعيدًا، مُعلَّقًا فوق مدارٍ من أضواء مبهمة، أشبه بسماء نستمع إليها ولا نراها.

قالت لي صديقتي  ميشا مخول: "شفتها… شفتها". لم تنطق بالاسم.
صرخت " مين شفتي ؟"  لم تنطق بالاسم. قالت " هي هي ". وكأننا معًا لا نجرؤ على قول اسمها.  كررت السؤال "شفتيها هي…هي؟!". ردّت وهي تهزّ رأسها: "إيه، شُفتها وحكيت معاها". لكنها لم تقل "فيروز"، وكأننا  لا نصدّق أن فيروز تجلس لتقبَل العزاء، أن فيروز بكل أسطوريتها، على بعد خطوات من الأرض.

دخلتُ صالون الكنيسة، أتهيأ لمواجهة لحظة لا أعرف إن كنت أحتملها. لحظة سأقف فيها أمام فيروز، أسطورتي. هل كنت أتصوّر أن المسافة بيني وبينها ستكون خطوة؟ أقل من خطوة؟ هل كنت أتصوّر أن أقترب منها إلى هذا الحد؟

وقفت أمامها. شعرت برهبة لا تشبه أي شعور آخر، وخشيت أن يخرج صوتي متعرّجًا، متذبذبًا، قبل أن يصل إليها. كانت هناك، فيروز، بكامل حزنها المهيب، ترتدي سوادًا أكثر من الحداد ذاته، تضع طرحتها السوداء على شعرها، ترتدي نظارتها، وتجلس على كرسيّ متواضع. لكن الهيبة التي ملأت المكان فاقت هيبة الملوك والسلاطين… هيبة لا يمكن تحديدها أو وصفها أو حتى تسميتها.

“أنا بين يدي فيروز”… هكذا قلت في سري. وكأني أدخل مقامًا لأتلو صلوات. فيروز في حزنها المهيب، في شموخها وتواضعها معًا.

اقتربت، وتمتمت بكلمات عزاء لا أعلم كيف لم يتكسّر صوتي فيها. و أنا أمامها، شعرت برغبة أن أركع عند قدميها، أن أقبّل يدها. ثم راودني صوت داخلي: “لا… دَعيها تظل أسطورتك، دعها تبقى فوق اللمس”.

وما زاد من رغبتي في ألا ألمسها أنني حين رأيتها عن قرب، كان بياض بشرتها صاعقًا  وناصعا . للحظة ظننت أنّ خيالي يبالغ، أنني أرى هالة من نور تحيطها. سألت زملائي بصوت هامس: "هي فعلًا بيضاء البشرة هكذا؟ أم أن عيوني تتوهّم وأن الخيال يتداخل مع الحقيقة؟" فأكدوا لي أنهم أيضًا صُدموا من بياض بشرتها النوراني، بياض ناصع كوقارها، مثل دموعها التي كانت تمسحها برفق، وأنا أقرأ في إيماءة رأسها ألف كلمة لا تُقال. وكنت أتساءل: هل تشعر بكل هذا الحب والمشاعر التي نرسلها إليها؟

قد يظن البعض أنني أبالغ، أنني أرفعها إلى مصافّ الآلهة. لكن الأمر ليس كذلك. نحن جيلٌ نشأ وفيروز في بيوتنا أكثر من صلاة يومية. فيروز لم تكن صوتًا فقط. كانت سماءً "ثامنة"، كانت مجرّة بعيدة نحيا فيها. من صغرنا ونحن نراها مخلوقة من ضوء النجوم ومن وجه القمر ، من وهج الشمس، من عذوبة الأنهار وغموض البحار. وحين نسمع صوتها، لا يدخل أذننا أولاً، بل يتسلل إلى أرواحنا وأحلامنا وخلايانا… إلى الـDNA الخاص بنا.

رحل زياد… زياد الذي أنزل فيروز من عليائها قليلًا حين جعلها تغني : "كان غير شكل الزيتون". رحل زياد، وجعلها تتجلّى أمامنا، جعلنا نلتقيها وجهًا لوجه. ، نلتقيها  للحظة عاجزون فيها عن أن نواسي حرقة قلبها، وعاجزون أكثر عن كبح الرجفة في قلوبنا والقشعريرة في أجسادنا.

لحظة سنظل نرتجف ونحن نستعيدها، لأننا لمسنا الحلم، لأننا لمسنا فيروز بأم العين
هكذا كانت الثواني القصيرة بين يدي مولاتي فيروز: رهبة وارتعاش في القلب، وخيط ضوء في الروح لا ينطفئ.
رحم الله زياد الرحباني ابن فيروز

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

برشلونة يضرب سول بسباعية في ثاني تجاربه الودية

1.2 مليون معتمر منذ انطلاق موسم العمرة هذا العام

رئيس الوزراء يتابع مع وزير الاستثمار جهود تطوير منظومة الإفراج الجمركى

غدا.. انخفاض فى درجات الحرارة واضطراب بالملاحة البحرية والقاهرة 34 درجة

تنسيق الجامعات 2025.. معامل التنسيق تستقبل طلاب الثانوية العامة لتسجيل الرغبات بالموقع الإلكترونى.. تقدم الدعم الفنى للطلاب.. تهيب بالطلاب التقديم بالمؤسسات المعتمدة فقط.. و40 ألف طالب يسجلون الرغبات


مصرع عنصر جنائى شديد الخطورة هارب من إعدام فى اشتباكات مع الأمن بالجيزة

مخدر اغتصاب الفتيات.. رفض استئناف البلوجر داليا فؤاد على حبسها سنة

"الزراعة" تضبط أكثر من 120 طن لحوم غير صالحة للاستخدام الآدمي

توقف الدعاية الانتخابية لمرشحى انتخابات مجلس الشيوخ 2025

تهم قادت "طفل المرور" إلى المحاكمة سبتمبر المقبل.. أبرزها تعاطى الحشيش


بقرار حزب ترامب.. الكونجرس يرفض محاولتين لمنع بيع أسلحة لإسرائيل

دليلك الشامل لفهم قانون الإيجار بين حقوق المالك وضمانات المستأجر

المصري يعود غدًا إلى القاهرة بعد انتهاء معسكر تونس

هل تظلم الطالب على نتيجة الثانوية العامة يخفض درجاته.. التعليم توضح

ميسي يصنع ثنائية في فوز إنتر ميامي ضد أطلس بكأس الدوريات.. فيديو

جينيفر لوبيز تشعل الأجواء فى حفلها بمصر وتظهر بأكثر من إطلالة.. صور

إجلاء 1.4 مليون شخص من ساحل تشيلى تحسبا لحدوث تسونامى

طقس اليوم الخميس 31-7-2025.. انخفاض درجات الحرارة واضطراب بالملاحة

زحام ورغبات وطموحات.. معامل تنسيق عين شمس تواصل اليوم استقبال طلاب الثانوية

بدء التقديم لكلية الشرطة 2025 اليوم.. اعرف الشروط والمستندات المطلوبة

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى