سيدة البالطو الأبيض

كانت ترتدي البالطو الأبيض لا كزيّ طبيبة، بل كلحاف من رحمة، يغمر من حولها، سماعتها التي طالما سمعت بها أنين المحتاجين، علّقتها أخيرًا، ومضت بهدوء يشبه دعاءً في آخر الليل.
الدكتورة هناء شوقي عمر عبد الراضي، لم تكن فقط قريبة الدم، بل كانت قريبة القلب، تنتمي إلينا جميعًا، كما تنتمي يدٌ طيّبة لجسد الحياة.
هي ابنة عمي، وزوجة ابن عمي "عبد الناصر حامد"، لكنها فوق كل ذلك، كانت امرأة استثنائية، تحمل الألم عن غيرها كأنها خُلقت لتخففه.
أتذكرها جيدًا.. في صيفيات الطفولة، حين كانت تعود مع أسرتها من مدينة سوهاج إلى قريتنا شطورة، شمال المحافظة، لتسكن بيت الجد، الشيخ الجليل عمر عبد الراضي، الذي كانت عمامته أوسع من ظل شجرة، وعلمه يملأ أروقة الأزهر، كانت تلك الزيارات موسمية، لكنها كانت تملأ القرية بالدفء، كأن الشمس تحزم أمتعتها وتأتي معنا لتقيم هناك.
بعد تخرجها في كلية الطب، جاء تكليفها إلى وحدة صحية في قلب قريتنا، أقامت وحدها في بيت جدنا، وكأن البيت القديم تنفس مجددًا، كانت تبدأ يومها مبكرًا، وتنهيه متأخرًا، وهي لا تزال تبتسم، كأنها تعتذر للوجع عن وجوده.
ثم تزوجت، وغادرت إلى العريش، لكنها لم تغادر العطاء، ثم إلى شرم الشيخ، هناك، لم تكن الشمس وحدها تمنح الدفء، كانت هناء كذلك، لم تتوقف، رغم أن المرض، ببطء لا يرحم، بدأ يطرق أبوابها، لكنه لم ينتزع منها ضوءها، ولا قدرتها العجيبة على مواساة الآخرين، حتى وهي تتألم بصمت.
رأيت فيها الأم التي غرست وأثمرت، رحلت بعد أن اكتمل الزرع في أبنائها الثلاثة: "الدكاترة": أحمد ودينا ومنة، كانت تبتسم في وجوههم وكأنها تقول: الآن يمكنني أن أستريح.
قبل خمس ساعات فقط من الرحيل، زرتها في المستشفى، لم تتحدث، ربما قالت كل شيء بصمت، خرجتُ حزينًا، مثقلاً بما لم أستطع قوله لها، وما لم تستطع هي أن تبوح به، ثم جاء الخبر.. خمس ساعات فقط كانت كافية ليذبل الزمن.
كانت تتابع كتاباتي، تناقشني، تصحح لي أحيانًا، ولم أظن أن يأتي اليوم الذي أكتب فيه عنكِ، لا لكِ.
سلامٌ على روحكِ يا دكتورة هناء.. بلّغي سلامنا لجدنا عمر عبد الراضي، وعمنا عبد الرحمن عبد الراضي، ولأبي..، قولي لهم إنكِ كنتِ عظيمة كما كانوا، وإنكِ زرعتِ فينا شيئًا لا يزول.
الراحلون العظماء لا يغيبون، بل يختبئون في قلوبنا، وفي حنيننا، وفي ما علمونا، موعدنا معكِم جميعا، حيث لا وجع، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

Trending Plus