في البحث عن المحرك الأول... صراع المؤسسات والجغرافيا والثقافة 3

كريم السقا

في أزقة الفكر المعاصر، حيث هدأت ضجة الصراع القديم بين الدولة والسوق، بدأ الباحثون رحلة جديدة، أشبه بالحفر في طبقات التاريخ العميقة، بحثًا عن "المحرك الأول"، عن السبب الجذري الذي يجعل أمة تزدهر وأخرى تذوي. ومن هذا الحفر، انبثقت ثلاث روايات كبرى، ثلاث قصص تتصارع لتفسير لغز الثروة والفقر.

الرواية الأولى: حكاية المؤسسات

يقف على رأس هذه الرواية رجلان، دارون أسييم أوغلو وجيمس روبنسون، اللذان قدما في كتابهما المثير للجدل "لماذا تفشل الأمم" تفسيرًا بسيطًا وقويًا كحد السيف. قالا إن مصير الأمم تحدده طبيعة مؤسساتها، لا جغرافيتها ولا ثقافتها. وقسما هذه المؤسسات إلى نوعين، كأنهما طريقان لا ثالث لهما: طريق النور وطريق الظلام.


الطريق الأول هو طريق المؤسسات الشاملة (الجامعة). هذه مؤسسات بُنيت لتخدم الجميع، لا فئة بعينها. مؤسسات اقتصادية تحمي الملكية الخاصة، وتكفل سيادة القانون، وتفتح الأبواب أمام الجميع للمنافسة والمبادرة. ومؤسسات سياسية توزع السلطة وتضع عليها القيود، فلا يستأثر بها حاكم أو حزب. هذه المؤسسات، كما يريان، تخلق حوافز للابتكار والاستثمار، وتطلق طاقات المجتمع، فتدخل الأمة في "حلقة حميدة" من الرخاء والسلام.


أما الطريق الثاني، فهو طريق المؤسسات الاستخلاصية. وهذه مؤسسات صممتها نخبة ضيقة لتستخلص ثروات البلاد وتصبها في جيوبها. مؤسسات اقتصادية تنهب الملكية، وتغلق الأبواب في وجه المنافسين، وتخلق احتكارات للأقوياء. ومؤسسات سياسية تركز السلطة في يد قلة، بلا رقيب أو حسيب. في ظل هذه المؤسسات، تخشى النخبة من "التدمير الخلاق" الذي يأتي به الابتكار، لأنه يهدد امتيازاتها وسلطتها، فتعمل على خنق أي تغيير، وتدخل الأمة في "حلقة مفرغة" من الفقر والصراع.

ولكن كيف تختار الأمم طريقها؟ يريان أن التاريخ يسير على "مسار معتمد"، فالمؤسسات تميل إلى إعادة إنتاج نفسها. لكن هذا المسار ليس قدرًا محتومًا. فهناك "منعطفات حاسمة" في التاريخ، كالأوبئة الكبرى أو الثورات أو اكتشاف طرق تجارية جديدة. عند هذه المنعطفات، يمكن لاختلافات طفيفة أن تتضخم، فتدفع مجتمعين متشابهين في اتجاهين مختلفين تمامًا، أحدهما إلى المجد والآخر إلى الخراب. واستخدما قصة الاستعمار "كتجربة طبيعية" لإثبات نظريتهما؛ فالأوروبيون أقاموا مؤسسات شاملة في الأماكن التي استطاعوا الاستيطان فيها، بينما أقاموا مؤسسات استخلاصية في الأماكن التي فتكت بهم أمراضها، وظلت هذه المؤسسات قائمة حتى بعد رحيلهم، لتحدد مصير تلك الأراضي حتى يومنا هذا.

 

الرواية الثانية: حتمية الأرض

في وجه هذه الرواية التي تمجد إرادة الإنسان ومؤسساته، تقف رواية أخرى، قديمة قدم الفكر نفسه، لكنها عادت بقوة على يد جاريد دايموند في كتابه الملحمي "أسلحة وجراثيم وفولاذ". تقول هذه الرواية إن الإنسان ليس سيد مصيره، بل هو أسير بيئته. فالتفاوت الهائل بين الحضارات لا يعود إلى عبقرية عرق أو سمو ثقافة، بل إلى حظ جغرافي بحت.

يرى دايموند أن أوراسيا كانت القارة المدللة. فقد حباها القدر بوفرة من النباتات القابلة للزراعة كالقمح والشعير، والحيوانات القابلة للتدجين كالخيل والبقر. هذه الهبة سمحت بظهور الزراعة، التي بدورها أدت إلى فيض في الغذاء، وتزايد في السكان، ونشأة مجتمعات مستقرة ومعقدة، فيها جنود وحكام وحرفيون.
ثم يضيف القدر هبة أخرى: شكل القارة نفسها. فمحور أوراسيا الأفقي (شرق-غرب) جعل انتشار الزراعة والحيوانات والأفكار سهلاً عبر آلاف الأميال من المناخات المتشابهة. بينما المحور الرأسي (شمال-جنوب) للأمريكتين وأفريقيا خلق حواجز بيئية هائلة أعاقت هذا الانتشار.

والهبة الثالثة، والأكثر فتكًا، كانت الجراثيم. فعيش الأوراسيين لآلاف السنين جنبًا إلى جنب مع حيواناتهم أكسبهم مناعة ضد أمراض فتاكة كالجدري والحصبة. وعندما أبحروا إلى العالم الجديد، كانت هذه الجراثيم سلاحهم الأقوى، فقد حصدت أرواح الملايين من السكان الأصليين الذين لم تكن لأجسادهم أي معرفة بها، ومهدت الطريق للغزو. في هذه الرواية، الجغرافيا هي القدر، والمؤسسات والثقافات ليست سوى ظلال لهذا القدر.

 

الرواية الثالثة: همس الثقافة

وبين ضجيج المؤسسات وصخر الجغرافيا، تأتي رواية ثالثة، أكثر همسًا ودقة، تتحدث عن الثقافة. لا تتحدث عن "أخلاقيات العمل" كصفة عرقية، بل عن خيوط غير مرئية من الثقة والأعراف والشبكات الاجتماعية التي يسميها العلماء "رأس المال الاجتماعي".

فالمجتمع الذي تسود فيه الثقة بين أفراده، تقل فيه تكاليف التعامل، ويسهل فيه التعاون، وتتدفق فيه المعلومات. لكن هذه الخيوط قد تكون سيفًا ذا حدين. فالروابط القوية داخل العائلة أو الطائفة قد تكون مصدر قوة لأفرادها، لكنها قد تتحول إلى محسوبية وفساد وعداء تجاه الآخرين.

ويبقى السؤال الأصعب: هل الثقافة هي التي تخلق المؤسسات الجيدة، أم أن المؤسسات الجيدة هي التي تربي ثقافة الثقة على مدى أجيال؟ يبدو أن الجواب يكمن في "التطور المشترك"، في رقصة أبدية بين روح الشعب وقوانينه، حيث يشكل كل منهما الآخر في رحلة التاريخ الطويلة.

وهكذا، نجد أنفسنا أمام ثلاثية معقدة. فالجغرافيا تضع خشبة المسرح، والتاريخ يكتب المشاهد الأولى، ثم تتفاعل المؤسسات والثقافة في حوار لا ينتهي، ليصنعا معًا ملحمة التقدم والانحدار.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى