لماذا نحتاج إلى الثقافة "14" الترجمة ودورها في تعزيز سردياتنا

أصبحت الرسالة الثقافية في عصرنا الحالي جزءا من الموقف السياسي للدول، ومن ثم صار تواصلنا الثقافي مع الآخر أمرا حيويا وضرورة استراتيجية لتعزيز مكانتنا وحماية هويتنا، ومع ذلك، يواجه المحتوى العربي على الإنترنت تحديًا كبيرًا، حيث تُشير الإحصائيات إلى أن المحتوى العربي لا يمثل سوى نسبة ضئيلة جدًا من إجمالي المحتوى العالمي المنشور على الشبكة العنكبوتية، فبينما يُقدر المحتوى باللغة الإنجليزية بحوالي 52.3%، يأتي المحتوى العربي في مرتبة متأخرة جدًا، لا يتجاوز 1% من هذا الإجمالي في بعض التقديرات الحديثة، وبالطبع فإن هذه النسبة المتدنية لا تعكس ثراء حضارتنا ولا عمق إرثنا الفكري، مما يضعنا أمام مسؤولية كبيرة لسد هذه الفجوة.
إن ضعف حضورنا الرقمي يعيق قدرتنا على التأثير في الخطاب العالمي وتقديم روايتنا الخاصة للعالم، ويترك فراغًا تملأه رؤى مشوهة أو معلومات غير دقيقة عن ثقافتنا وحضارتنا، وثوابتنا التاريخية والثقافية، ولذلك، فقد أصبحت الحاجة ملحة للعمل على زيادة المحتوى العربي المتاح للجمهور العالمي، وهو ما لا يمكن إدراكه إلا برعاية مشروعات الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى.
لقد شهدنا في الماضي العديد من مشروعات الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، والتي كان هدفها نشر ثقافتنا وإبراز إبداعاتنا الفكرية، ورغم النوايا الطيبة خلف هذه المبادرات، فإن جزءًا كبيرًا منها لم يحقق الانتشار المأمول، ويعود ذلك في أغلب الأحوال إلى إغفال جانب حيوي في عملية النشر الأجنبي، وهو فهم السوق المستهدف، فكثيرًا ما ركزت هذه المشروعات على مجرد الترجمة الفنية للنص، دون الانتباه إلى احتياجات القارئ الأجنبي، أو آليات التسويق والنشر في تلك الأسواق.
ولتجنب تلك العيوب، يجب أن ترتكز جهود الترجمة والنشر على الشراكة الاستراتيجية مع الناشر الأجنبي، فهو يمتلك الخبرة والمعرفة اللازمة بسوقه، ولديه القدرة على تحديد الأعمال التي تلقى صدى لدى جمهوره، وكيفية تسويقها بفعالية، ويجب أن تكون تلك الشراكة مبنية على مصلحة واضحة للناشر، تدفعه إلى العمل بجد لنجاح المشروع، يمكن تحقيق ذلك من خلال مسارين رئيسيين:
الأول هو الشراكة المباشرة، كما حدث في التعاون بين الهيئة المصرية العامة للكتاب والمعهد الكاثوليكي الإيطالي في روما، والذي أثمر عن ترجمة مجموعة من أهم الكتب العربية إلى الإيطالية ضمن سلسلة "الأدب المصري المعاصر"، وشملت أعمالاً بارزة مثل "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، ورواية "الحرام" ليوسف إدريس. وقد أظهرت هذه السلسلة، رغم توقفها لاحقًا، إمكانية تحقيق الانتشار عندما يتبنى طرف أجنبي المشروع بشكل مباشر.
ويتمثل الطريق الثاني في برامج منح الترجمة، وهي الطريقة الأكثر انتشارًا وفعالية بين الدول والثقافات التي تسعى لنشر إبداعاتها في اللغات الأجنبية، حيث تقوم هذه البرامج على تقديم دعم مالي للناشرين الأجانب لترجمة ونشر أعمال عربية مختارة، وقد أثبتت هذه البرامج فعاليتها الكبيرة، بشرط أن يتم ضبط معايير المنح بشكل علمي ومدروس، يضمن اختيار الأعمال ذات الجودة العالية والجاذبية للسوق الأجنبي، مع ملاحظة أن هذه البرامج ليست مكلفة بشكل مبالغ فيه في مقابل العائد الاستراتيجي الذي تحققه، وأهم ما في هذا العائد هو جذب الناشرين الأجانب للاطلاع على الكتب العربية المصرية، مما يفتح آفاقًا أوسع للتعاون المستقبلي.
وتكتمل هذه الجهود بحملات الترويج التي يمكن أن تقوم بها المكاتب الثقافية المصرية في سفاراتنا بالخارج، وهذه الحملات، إذا ما نُظمت بطرق غير مكلفة ولكن مدروسة جيدًا، يمكن أن تحقق عائدًا مضمونًا، حيث يجب أن تستند هذه الحملات إلى دراسة دقيقة لأسواق النشر في المجتمعات المستهدفة، والتواصل الفعال مع أهم الناشرين بها، ضمن خطة مركزية متكاملة.
وفي الختام، لا يمكننا إغفال الدور المحوري للترجمة إلى اللغات الأجنبية، فهي تمثل تعزيزا لمواقفنا وحماية لسردياتنا من التحريف المتعمد، وهو ما يتطلب التفكير خارج الأطر التقليدية في كيفية استخدام الثقافة كقوة ناعمة، وأن يكون للثقافة دور فاعل وحديث في استراتيجياتنا الوطنية،وهو ما يجب أن يوجه استثماراتنا في هذا القطاع الحيوي.

Trending Plus