موسم نعيق الغربان وفن إدارة المعارك الخاسرة!

هل سألت نفسك يوما عن أسوأ آفة يمكن أن يصاب بها المرء؟
لا أظن أن هناك مصيبة أفدح من أن يبتلى الإنسان في عقله ويفقد البصر والبصيرة ويجتمع عليه عمى العين والقلب!
وهو ما عبر عنه أبو الطيب المتنبي في مقولته الشهيرة :
"لكل داءٍ دواءٌ يُسْتَطَبُّ بهِ...إلاّ الحماقَةَ أَعيتْ من يُداويها"
ثمة مأساة غير مسبوقة يتعرض لها الشعب الفلسطيني الذي يراد له أن يقتلع من أرضه حتى تخلو لغاصبيها وهناك خطر داهم يتهدد المنطقة بأكملها ولكن بدلا من أن يُشغل الجميع بمحاولة التفكير فيما يمكن عمله من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه فإن هناك من يخوض المعركة الخطأ في التوقيت الصعب وضد من ؟ ضد مصر التي تتحرك برًا وجوًا وتكثف من ضغوطها لوقف حرب الاحتلال الهمجية على كل مظاهر الحياة في غزة.
قدر مصر أن تكون الشقيقة الكبرى، تقوم بمسؤوليتها في ظروف بالغة الصعوبة، مبادرة، صابرة ، محتسبة ويقينها أنها وأهلها في رباط إلى يوم الدين لكن نعيق الغربان تجاوز كل حد، بشكل يدعو للتساؤل ماذا قدم المزايدين على الدور المصري؟
التجارة الحرام بمأساة الأشقاء في القطاع المحاصر صنعة يجيدها البعض عوضا عن الاصطفاف مع مصر أو خلفها أو على الأقل الصمت، وهو يتوجب معه ضرورة إسقاط الأقنعة عن وجوه اعتادت الاتجار في كل شيء دون وزع من ضمير أو دين أو أخلاق.
حري بالجبناء وأصحاب القلوب الضعيفة أن يسكتوا أو أن يختفوا عن المشهد بالكلية خاصة في أوقات النكبات وأن يتركوا القاهرة بكل ما لها من وزن ودور ومكانة في الإقليم تحاول إصلاح ما أفسده الآخرون فهي لم تعتد يومًا أن تترك الأشقاء في محنتهم سواء كانوا في الشرق أو الغرب أو الجنوب.
كيف يسمح هؤلاء لأنفسهم بدون أي ذرة خجل أو أخلاق أن يحولوا مصر إلى عدو وهي التي قدمت آلاف الشهداء وتحمل اقتصادها المنهك مليارات الجنيهات في حروبها مع الاحتلال؟ هل مصر وهي تتحرك بكل ما أوتيت من قوة تستحق أن تنطلق تلك الدعوات الخبيثة بالتظاهر أمام سفارتها في إسرائيل، لماذا لم يطلق هؤلاء في المقابل دعوات للاحتجاج أمام سفارات الكيان الغاصب الذي أوغل في الدماء؟
الحقيقة المؤكدة هي أن القفز على الحقائق الواضحة للعيان هي أسهل طريقة لصناعة أبطال من ورق في فضاء باتت تلعب فيه السوشيال ميديا دورا متضخما في تهميش قضايا كبرى وتضخيم سفاسف الأمور ولكن من قال أن هناك من يمتلك القدرة على خداع كل الناس طوال الوقت ؟!
الشمس واضحة في كبد السماء ومصر لن يضرها من خذلها ولن يزيدها نعيق الغربان إلا ثباتًا لأنها تعرف طريقها جيدًا.
الحناجر في مواجهة الأفعال
جزء آخر يلخص عبثية المشهد يتبدى في تلك الحناجر التي ترفع عقيرتها تارة بالانتقاد وتارة بالاستهجان في مواجهة دولة تبذل جهودا كبيرة وتتحرك في الليل والنهار على أكثر من جبهة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، مفاوضات واتصالات وضغوط مكثفة وشاحنات متأهبة للتحرك من أجل إغاثة الأبرياء الذين يموتون جوعاً.
ثمة شواهد عدة تؤكد أن الحناجر تعرف طريقها جيدا وأن الضجيج والصراخ ليس عشوائيا ولا انفعاليا بالمرة خاصة أنه تزامن مع دخول شاحنات الإغاثة المصرية إلى القطاع المحاصر وهنا تساؤل أظنه مشروعًا،هل هناك من يستفزه منظر التحرك المصري المكثف باتجاه هدم جدار الحصار المحكم ؟ هل يتوهم أحد أن إسرائيل التي عزلت القطاع عن العالم ومنعت حتى الأمم المتحدة من إدخال أي نوع من المساعدات له قد قبلت التحرك المصري بسهولة ؟ قطعا لا والمؤكد أن هناك ضغوطاً كبيرة قد مُورِسَت في هذا الصدد.
المنطق يقول إنه كان من الأحرى بالحناجر أن تقل خيرا او لتصمت،كان بوسعها أن تشكر مصر وأن تطلب منها المزيد ولكنها اختارت أن تنال منها لأنها تريد أي شيء آخر إلا مصلحة الجوعى.
ضرورات الجغرافيا وثوابت التاريخ
الفلسطينيون منا ونحن منهم هذه إحدى مسلمات التاريخ التي تربطنا كشعب مصري بالقضية الفلسطينية التي تشغل منذ قيام دولة الاحتلال مركزاً متقدماً ضمن أولويات السياسة الخارجية المصرية وحتى عندما خاضت مصر آخر حروبها للدفاع عن أرضها في السادس من أكتوبر فإنها أصرت عند بدء مفاوضات السلام على أن تتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها جوهر الصراع.
هل هناك من يحتاج إلى إعادة التذكير بأن كل الحروب التي خاضتها مصر خلال قرابة 80 عاما كانت من أجل القضية الفلسطينية أو بسببها.
هل بوسع أي طرف عربي أو إقليمي أن يزعم أنه قدم من أجل الشعب الفلسطيني الشقيق مثل الفاتورة الباهظة التي قدمتها مصر من دماء أبنائها أو التكلفة التي تتحملها الآن سياسياً أو اقتصاديا في سبيل الوقوف حائط صد في مواجهة مشروع التهجير، مصر التي تصدت بقوة لكافة الضغوط القوية التي مورست عليها والتي رفضت جميع المساومات تستحق الاحتفاء بها وتقدير جهودها وليس الإساءة إليها بهذا الشكل البغيض.
مصر وفق ضرورات الجغرافيا وثوابت التاريخ لم ولن تتخلى ابدا عن المهجرين والجياع لأنها تريد أن يبقوا حيث هم الآن جبال راسخة وسط أرضهم.
مصر أيضًا لم ولن تنعزل داخل حدودها رغم محاولات أشغالها وإنهاكها من قبل قوى كثيرة دولية وإقليمية لأنها ترسم لنفسها خطوط الدفاع عن أمنها القومي ولأن الجغرافيا تعني أنك لا يمكن أن تتحدث عن عالم عربي من دون مصر.
اذهب أنت وربك فقاتلا
منذ أن نبت دولة الاحتلال الشيطاني في أرضنا وهناك خديعة كبرى تمارس من بيننا من يتحدثون عن الحرب حتى إذا لاحت نذرها تبخروا وكأنها لم يكونوا موجودين من الأصل وفي المقابل هناك أيضا من تفرض عليه المعركة ويخوضها مضطرا فالشقيقة الكبرى يجب أن تكون بشكل دائم في المقدمة حتى ولو لم تخض حربًا فإنها أيضًا تُشغل بكل مؤسساتها في محاولة إطفاء الحرائق التي يشعلها آخرون بقصد أو بحمق ومحاولة إنقاذ الضحايا الأبرياء.
عندما يتحدث هؤلاء عن مصر يفعلون ذلك بطريقة اذهب أنت وربك فقاتلا أن ها هنا قاعدون، علينا أن نعترف بأن مصر وقفت صخرة صلبة في مواجهة مخططات التهجير في ظل مواقف متذبذبة وضبابية من أطراف كثيرة وما مشهد القمة العربية الأخيرة التي عقدت في بغداد منا ببعيد .
من الظلم أن تتحمل مصر وحدها المسؤولية عن الوضع المأساوي في غزة أو مستقبل القضية الفلسطينية فالهم عربي بامتياز وبدون حد أدنى من التوافق بين فرقاء الأمة سوف نظل ندور في هذه الحلقة العبثية التي يتعرض فيها شعب بأكمله للإبادة.
لوضع في المنطقة في ظل سياسيات حكومة الاحتلال يهدد مستقبل الإقليم بأكمله في ظل انحياز أمريكي أعمى وهو ما يتطلب التفافا حول القوى الكبرى في المنطقة ومقدمتها مصر وليس تجييش كتائب إلكترونية من أجل إعلان الحرب عليها.
خسائر المعارك الخطأ في التوقيت الخطأ كارثية وتوجيه السهام إلى صدور الأشقاء بدلاً من قلوب الأعداء أما خيانة أو جنون.
صبوا نيران غضبكم إلى صدور القتلة والسفاحين لا تحاولوا شغل من يسعى بكل جهد وإخلاص لوقف سيل الدماء حتى لا نضعكم معهم في قارب واحد.
وعندما تتحدثون عن مصر المذكورة في كتاب الله والمحفوظة بحفظه لا تنسوا أن تقفوا لها إجلالا واحتراما واعلموا أنها عصية على الانكسار.
اعدلوا هو أقرب للتقوى

Trending Plus