حسين عبد البصير يكتب: "عن العشق والسفر" حين تصير الذاكرة شكلا من أشكال الإقامة فى الحياة

كتاب "عن العشق والسفر: حائط الذكريات"
كتاب "عن العشق والسفر: حائط الذكريات"

في عالم يمضي سريعًا، حيث تُبتلع اللحظات دون أن تُتذوَّق، وتضيع الذكريات بين ملفات الهاتف ومشاغل الحياة، يأتي كتاب "عن العشق والسفر.. حائط الذكريات" للكاتبة والمهندسة نهى عودة ليعيدنا إلى الأصل… إلى المعنى… إلى اللمسة الأولى، والضحكة الأولى، والدمعة الأولى.

الكتاب هو العمل الرابع في سلسلتها المتميزة، لكنه لا يُقرأ كرقم ضمن سلسلة، بل كذروة نضج. ثمرة وعي كُتبت بلغة ناعمة وصافية، واكتملت على مهل، كما تكتمل الذكريات حين تمنحها الحياة فسحة من الحضور.

نهى عودة لا تكتب عن اليابان فقط، ولا عن السفر، بل تكتب عن الإنسان في تجلياته اليومية الصادقة، عن الأسرة كوطن متنقل، وعن الذكرى كمقدّس شخصي مقاوم للزوال. هذا الكتاب ليس فقط عن المكان، بل عن ما نحمله من المكان، وما نبنيه في دواخلنا بعد أن نغادره.

الذكريات أولاً… ودوماً

"الذكريات هي حياتي" — هكذا تبدأ الكاتبة كتابها، لكنها لا تُلقي الجملة كمجرد افتتاحية. إنها إعلان وجود. هذه العبارة تُشكل حجر الزاوية في كل ما يأتي بعدها، وتؤسس لفلسفة شخصية ترى في الذكرى لبّ الوجود لا ظله.

من هذه العبارة، ومن هذه الرؤية، تبدأ الكاتبة في رسم جدارية حميمة: جدار بنفسجي اللون في بيتها، تعلوه شجرة تمتد فروعها لتضم صورًا وإطارات، كل واحدة منها تمثل لحظة، موقفًا، نظرة، أو ربما دمعة. حتى الصورة التي قطعها طفلها الصغير — والتي كانت لحظة غضب وقتها — أصبحت الآن مصدراً للضحك والامتنان.

في لحظة شاعرية وذاتية، تتذكر الكاتبة كيف قامت بتركيب تلك الشجرة قبل زفافها بساعات وهي تبكي لأنها جاءت سوداء بدلًا من الفضي. ومع مرور الوقت، أصبح اللون الأسود هو اللون الأنسب: "لأن الصور هي ما تضيف الألوان، لا الطلاء".

هنا نرى كيف تتحول الخيبة القديمة إلى جمال ناضج، والندم إلى حنان.

سفرٌ خارجيّ… ومنازل داخلية
الرحلة التي يسردها هذا الجزء من السلسلة هي إلى اليابان، لكن الرحلة الفعلية تقع داخل الوعي والوجدان.
نهى عودة لا تنقل مشاهد سياحية، بل تحلل الحياة، وتعيد بناءها بعيون مختلفة.

من شجرة القيقب التي تراها في اليابان كرمز روحي للمبادئ الجميلة: الوفرة، الصبر، الجمال، السلام، إلى أسطورة "جيزو حارس أرواح الأطفال"، تنقلنا الكاتبة من مكان إلى إحساس، ومن إحساس إلى فهم أعمق للحياة والوجود.

حين تتحدث عن جيزو، لا تفعل ذلك من منظور غريب يتأمل طقسًا دينيًا بعيدًا، بل كأم، كامرأة مرت بالخسارة، وتعرف جيدًا طعم الفقد. تقول:

"أعرف هذا الألم جيدًا، فقد كنت هناك ذات مرة."
هذه العبارة كافية لإضفاء عمق لا يُقدّر بثمن على النص كله.

البخور… والرائحة التي تسكن الذاكرة

البخور في هذا الكتاب ليس مجرد تفصيلة شرقية، بل هو قناة اتصال بالحضارة، والروح، والبيت. حين تتحدث الكاتبة عن البخور، تربطه بالمصريين القدماء الذين اكتشفوه أولًا، لكنها لا تكتفي بهذه المعلومة، بل تمنح القارئ لحظة شاعرية تقول فيها إنها نظرت إلى صورة في الصفحة، وشعرت بالرائحة تنتشر حولها.
في هذه اللحظة، الكتاب يُغادر الورق ليصبح حساً وعطراً وحنيناً.

"الكابوكي" – من المبالغة إلى المألوف
حين تتناول الكاتبة فن الكابوكي الياباني — فن الأداء المسرحي المبالغ فيه — تربطه بعبارة مألوفة في مصر: "إيه الحركة الكابوكي دي؟"
كنا نقولها ساخرين دون أن نعرف أصلها. وهنا تتحول الجملة الساخرة إلى جسر ثقافي يربط الماضي بالمعرفة، والضحكة بالفن.
هذا هو ما يميز نهى عودة: القدرة على كشف المعنى فيما نظنه تافهًا، والعثور على الجذور في التفاصيل.

الأسرة… حين تكون الذكرى وطنًا
الكتاب يدور حول الأسرة أكثر مما يدور حول السفر. فالخمس أفراد الذين يتقاسمون الرحلة هم جوهرها الحقيقي.
من الجلوس حول مائدة الطعام، إلى اللحظات الصغيرة من التحدث، إلى التجمع على أريكة واحدة لمشاهدة التلفاز — تلك هي الذكريات التي تصنع المعنى.
"أن نجلس معًا، أن نضحك، أن نحكي، أن نحيا كأن الزمن لا يريد الرحيل… تلك هي الكنوز."
الذكريات ليست في الصور الفوتوغرافية، بل في الدفء الذي لا يُنسى.

غزة… والوجع الذي لا يُغيب
في خضمّ هذا العالم من الرحلات والضحكات، لا تنسى الكاتبة غزّة. لا بصراخ، بل بأرقام، بإحصائيات، بتوثيق صادق.
إنها لا تتحدث عن مأساة الآخرين كترف أدبي، بل كجزء من ضمير إنساني لا يغفل حتى وهو يحتفل.

كتاب لا يُصنّف… بل يُعاش
هل هو أدب رحلات؟ تأملات ذاتية؟ يوميات؟ مذكرات أمومية؟ فلسفة وجودية؟
هو كل هذا… وأكثر.
هو كتاب يُعلّمنا كيف نُحب الحياة، من خلال الذكريات.
وكيف تكون الذكرى أثمن من الصورة.
وكيف أن الحنين ليس ضعفًا، بل قوة تُبقيك إنسانًا.

أجمل ما في الكتاب: اقتباسات تُشبه البوح
"العائلة هي كل شيء... العائلة تحميك عندما يلزم الأمر، وأنت ستحميهم عندما يلزم الأمر."
"في صغري، كانت عائلتي كبيرة. عشت سنوات طفولتي كاملة بينهم، ألهو وأضحك وأبني تلالًا من الذكريات."
"بعد سنوات طويلة من السفر، علمت أن الذكريات الأروع هي تلك البسيطة... حديث عائلي، لحظة هادئة، ضحكة على أريكة واحدة."
"قال لي ذات يوم: الذكرى تزدهر بالتفاصيل، وكلما سقيناها، كلما زادت نضارتها."

الكاتبة التي بنت جدارًا من الضوء
نهى عودة في هذا الكتاب ليست فقط مهندسة، بل معمارية للحنين.
بنت جدارًا — من أوراق، وصور، وذكريات، وضحكات، وألم — لكن الجدار لا يُشبه جدار بيت، بل جدار قلب.
كتبت عن السفر لتقول لنا: السفر الحقيقي ليس في الطائرة بل في من تمسك بيده وأنت تسافر.
وكتبت عن العشق، لا كغواية، بل كقدرة إنسانية عميقة على التذكُّر، وعلى البناء من لحظات صغيرة لم تكن تبدو مهمة وقتها.
إنه كتاب عن الحياة كما ينبغي أن تُعاش.
عن الحب كما ينبغي أن يُصان.
عن العائلة كما ينبغي أن تُحتَفَظ بها… في قلبٍ لا ينسى.
هذا الكتاب لا يُقرأ فقط، بل يُهدى، ويُحتضن، ويُعاد إليه كلما احتجنا أن نُذكّر أنفسنا… من نحن.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى