سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 4 يوليو 1187.. صلاح الدين ينتصر على الصليبيين فى «حطين» بجيش من مصر والشام والعراق ومتطوعين من المغرب العربى ويحتفظ بكبار الأسرى ويبيع الفقراء منهم بأسعار زهيدة

مرت قافلة غنية من قوافل العرب بالقرب من «الكرك» وكانت إحدى أهم وأكبر القلاع الصليبية فى بلاد الشام، فانقض عليها «ريجنالد» صاحب الكرك، كما فعل قبل ذلك بسنوات مع قافلة أخرى، حسبما يذكر «محمد صبيح» فى الجزء الأول من كتابه «مواقف حاسمة فى تاريخ القومية العربية»، مضيفا، أن الانقضاض فى المرة الثانية أدى إلى نهب جميع أموال القافلة ومتاعها، وأسر كل رجالها ونسائها وسجنهم، وقيل إن أخت صلاح الدين الأيوبى كانت بينهم، ولما علم بما فعله «ريجنالد» ثار غضبا، وأقسم ليقتلن هذا الغادر بيده.
يذكر «صبيح» أن القوات الصليبية المتفرقة اتحدت، وفى المقابل توحدت كلمة العرب، وسار صلاح الدين على رأس جيشه الكبير الذى جمعه من أنحاء دولته المتماسكة، وتقارب الجيشان، وحاول صلاح الدين الاشتباك مع الافرنج فلم يتحركوا فأراد استدراجهم، فهاجم مدينة «طبرية» وكانت لهم، فاستولى عليها بعد معركة صغيرة.
تطورت الأحداث ففى داخل المعسكر الصليبى هناك من رأى أن عدد جيش المسلمين ضخم وهناك خوف من نزاله، وهناك من رأى العكس قائلا: «لا خوف من كثرة عددهم، فالحطب الكثير تأكله النار»، وكانت الكلمة الفصل يوم 4 يوليو، مثل هذا اليوم، 1187، ويذكر «صبيح»، أنه فى الصباح صدر أمر لجيش الصليبيين وساروا نحو طبرية، وعلم صلاح الدين بتحركهم فاستعد للموقعة وأسرع المسلمون إلى أماكن المياه، فنزلوا فيها كى يمنع الإفرنج عنها، ووصل الإفرنج متأخرين، ففقدوا أمكنة المياه، وأصابهم التعب والعطش وتحللت معنوياتهم، وقضوا ليلة ليلاء، أمضوا ساعاتها الطويلة وهم يصيحون الماء، الماء، بينما تصلهم أصوات المسلمين فى معسكرهم، وهم يهللون ويهتفون: الله أكبر، الله أكبر، وطلعت تباشير صباح السبت 4 يوليو 1187، وأسرع فرسان الصليبيين إلى جيادهم، ولكن المشاة كانوا يتحرقون عطشا، بينما كان المسلمون الذين امتلكوا ينابيع المياه يمتلأون ثقة وعزما، وتقابل الجيشان على بعد ميلين من «حطين» وبدأ القتال الذى انتهى بانتصار صلاح الدين وجيشه.
لم يكن الطريق إلى هذا اليوم العظيم فى تاريخنا العربى سهلا، وهو اليوم الذى أدى فيما بعد إلى اقتلاع الصليبيين نهائيا من المنطقة بعد أن استوطنوها لعشرات السنوات، ويذكر المؤرخ الدكتور قاسم عبده قاسم، أن الحالة التى كانت سائدة بين العرب وقتئذ «تشرذم، أنانية، فرقة سياسية وصمت حكام المنطقة»، وأدرك «صلاح الدين أن هذا هو السبب فى نجاح الفرنج، كما أدرك أن استمرار الوجود الصليبى فوق الأراضى العربية رهين باستمرار انحطاط الخلق السياسى لدى الحكام».
ويذكر قاسم فى دراسته «صلاح الدين الأيوبى وحرب الاسترداد الإسلامية _ تحرير القدس من الفرنج»: «معركة حطين التى شاركت فيها الجيوش المتحدة من مصر والشام والعراق إلى جانب المتطوعين من المغرب العربى، كانت بمثابة العلاقة الدالة على الطريق الصحيح لهزيمة العدو، طريق العمل المشترك سياسيا وعسكريا فى المنطقة العربية».
قام جيش صلا ح الدين بعملية أسر واسعة للجنود الصليبيين، وكان من أبزر الأسرى الملك «ريجنالد» صاحب الكرك وأخوه «عمورى» و«رينو أف شاتيون»، و«أرناط» وفى خيمته استقبل صلاح الدين الأسري، وحسب الدكتور محمد سعيد عمران فى كتابه «تاريخ الحروب الصليبية»: «أجلس صلاح الدين الملك الصليبى إلى جواره، وعامل الأسرى معاملة طيبة، ولاحظ أن الملك أهلكه العطش فسقاه ماء مثلوجا وبعد أن شرب الملك أعطى ما تبقى إلى «أرناط» الذى قتله صلاح الدين بعدها لأنه كان يأخذ قوافل المسلمين غدرا، ولما شاهد الملك الصليبى «جاى» ما حدث ل «أرناط» اعتقد أن الدائرة ستدور عليه، ولكن صلاح الدين طيب خاطره، وقال له: لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فإنه تجاوز وحده فجرى عليه ما جري، وأما الآخرون من كبار الأسرى فقد احتفظ بهم، وبيع بقية الأسرى الفقراء بأسعار زهيدة.
أصبح صلاح الدين بعد انتصار حطين زعيما للعالم الإسلامى بلا منازع، فهو الذى حطم أكبر وأضخم جيش للملكة الصليبية فى المنطقة، وفتح الطريق أمام إنهاء الوجود الصليبى، وجدد انتصاره هذا حقيقة مؤكدة يذكرها المؤرخ السورى الدكتور شاكر مصطفى فى دراسته «من الغزو الصليبى إلى الغزو الصهيونى وبالعكس»، قائلا: «كانت عملية تحرير فلسطين من الفرنجة من عمل مصر والشام بالذات، وكان شمال العراق هو العمق الاستراتيجى للعملية، ويبدو أن المنطق الجيو بوليتكى لا يزال قائما ولا تزال عملية التحرير من مهمات هذه المنطقة بالذات قبل غيرها».

Trending Plus