منابر الشفاء فى الكنيسة القبطية ودعم الصحة النفسية.. رعاية متكاملة للأسرة والشباب وبروتوكولات تعاون مع الدولة.. دعم مخصص للأسر ومواجهة مشكلات الإدمان.. وتقديم خدمات نفسية فردية وسرية

كتب محمد الأحمدى
الجمعة، 04 يوليو 2025 05:00 ص
وسط تعقيدات الحياة المعاصرة، وتزايد الضغوط النفسية على الأفراد والعائلات، برزت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كمؤسسة روحية وإنسانية تقدم نموذجًا فريدًا في الاهتمام بالإنسان ككل، روحًا ونفسًا وجسدًا، ولم يعد دور الكنيسة مقتصرًا على العبادة والرعاية الروحية فقط، بل تطور ليشمل دعم الصحة النفسية، انطلاقًا من إيمانها بأن "النفس الغالية عزيزة على الله".
ووقعت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ممثلة في اللجنة المجمعية للصحة النفسية ومكافحة الإدمان، بروتوكول تعاون مع وزارة الشباب والرياضة (مكتب فن إدارة الحياة)، وذلك ضمن مراسم افتتاح المقر الدائم للمكتب بمركز الابتكار الشبابي والتعلم بالجزيرة، بحضور الدكتور أشرف صبحي وزير الشباب والرياضة.
يأتي هذا في إطار تعزيز الشراكة المجتمعية وتفعيل دور الكنيسة في دعم الصحة النفسية وتمكين الشباب. مثّل الكنيسة في توقيع البروتوكول القس موسى فتحي، سكرتير اللجنة المجمعية للصحة النفسية ومكافحة الإدمان، بتكليف من نيافة الأنبا ميخائيل، أسقف حلوان والمعصرة ومقرر اللجنة.
ويهدف هذا التعاون إلى تقديم برامج تدريبية وتوعوية مشتركة في مجالات التنمية النفسية والمهارات الحياتية، ضمن رؤية وطنية لبناء وعي شبابي متوازن ومتماسك.
مبادرات نفسية منتشرة فى أنحاء الإيبارشيات
في السنوات الأخيرة، بدأت الكنيسة تتبنى منهجًا علميًا في التعامل مع قضايا الصحة النفسية، من خلال تأسيس لجان متخصصة مثل اللجنة المجمعية للصحة النفسية ومكافحة الإدمان، وهي لجنة تابعة للمجمع المقدس. تسعى اللجنة إلى رفع الوعي، وتدريب الكهنة والخدام على مبادئ الدعم النفسي، كما تنظم مؤتمرات دورية وورش تدريبية في مختلف الإيبارشيات.
ففي إيبارشية شبرا الخيمة، على سبيل المثال، أطلقت الكنيسة برنامج "نفسك تهمنا"، وهو برنامج يهدف لتقديم جلسات إرشادية جماعية للشباب، بينما في إيبارشية المنيا، تُعقد لقاءات شهرية بعنوان "نحكي ونتشافي"، يُديرها متخصصون في علم النفس يقدمون نصائح عملية وحلولًا مبنية على العلم والإيمان.
الوقاية النفسية تبدأ من التربية الكنسية
وفي مدارس الأحد، وهي النواة التربوية للكنيسة، بدأت فرق الخدمة تضم ضمن كوادرها متخصصين في الإرشاد النفسي التربوي، فهؤلاء يقدمون الدعم للخدام في التعامل مع الأطفال والمراهقين، ويقدمون تدريبات عملية حول اكتشاف العلامات المبكرة للاضطرابات النفسية مثل القلق، والخوف المرضي، واضطرابات السلوك.
وفي إيبارشية شبرا الشمالية، انطلق برنامج "طفلي يستحق"، الذي يقدم للأسر جلسات تدريبية حول التعامل مع الطفل الحساس، وفرط الحركة، وصعوبات التعلم، بمشاركة أطباء نفسيين وأخصائيين تربويين.
دعم مخصص للأسر ومواجهة مشكلات الإدمان
وذكر الأب دوماديوس كاهن كنيسة مارمرقس بأسوان أن الكنيسة لم تنس دور الأسرة، فوفرت جلسات مشورة زوجية، ولقاءات توعية للآباء والأمهات في عدد من الكنائس، واهتمت بقضية الإدمان بوصفها أزمة نفسية واجتماعية.
وفى هذا السياق، أقيمت شراكات مع مؤسسات علاجية وخبراء في الطب النفسي، لتنظيم لقاءات تثقيفية عن كيفية اكتشاف علامات الإدمان في بدايتها، وكيفية تقديم الدعم المناسب للمتعافين.
خدمات نفسية فردية وسرية
وفي بعض الكنائس الكبرى مثل الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، يتم تقديم خدمة الإرشاد النفسي الفردي بسرية تامة، حيث يمكن للمؤمن أن يحجز جلسة مع متخصص نفسي داخل الكنيسة. كما بدأت بعض الإيبارشيات توفير خطوط دعم نفسي عبر الهاتف، يُديرها متطوعون خضعوا لتدريب متخصص.
وفي القاهرة، شهدت إحدى الكنائس إطلاق تطبيق إلكتروني يحمل اسم "نفسك غالية"، يمكن من خلاله حجز استشارات نفسية مجانية أو منخفضة التكلفة مع معالجين نفسيين من أبناء الكنيسة.
بروتوكولات تعاون مع الدولة
في بادرة مهمة، وقعت اللجنة المجمعية للصحة النفسية مؤخرًا بروتوكول تعاون مع وزارة الشباب والرياضة، يهدف لدمج مفاهيم الصحة النفسية والمهارات الحياتية داخل مراكز الشباب والأنشطة الكنسية، بما يعود بالنفع على الشباب المصري كله، دون تمييز.
وفي كلمة لقداسة البابا تواضروس الثاني خلال أحد المؤتمرات النفسية بالكنيسة، قال: "الإنسان ثمين جدًا، وعلينا أن نحتضنه بجناحي المحبة والمعرفة. والكنيسة، كمستشفى روحي، يجب أن تكون أيضًا ملاذًا نفسيًا لكل نفس متعبة".
كسر حاجز الوصمة
وتعتبر واحدة من أهم إنجازات الكنيسة في هذا الملف، هو سعيها المستمر لكسر وصمة المرض النفسي، وتشجيع الناس على طلب المساعدة دون خجل. لم تعد المعاناة النفسية تُقابل بالتجاهل أو التفسير الخاطئ، بل أصبحت الكنيسة تتعامل معها كحاجة حقيقية، تحتاج لرعاية علمية وروحية.
شهادات حيّة من قلب الخدمة
ويقول أحد الشباب فى كنيسة العذراء بالمعادي: "كنت أعاني من اكتئاب حاد، ووجدت في الكنيسة شخصًا سمعني دون أن يحكم عليَّ، ثم دلني على طبيب نفسي كنسي ساعدني كثيرًا. اليوم أعيش حياة متزنة بفضل هذه المحبة غير المشروطة".
وفي شهادة أخرى من إحدى الأمهات في كنيسة بالإسكندرية: "ابني كان يعاني من قلق دائم، وظننا أنه تربية، لكن الكنيسة ساعدتنا في فهم حالته النفسية، وربطتنا بأخصائي، والنتيجة كانت مبهرة".
وفى كل ما تقدمه، تؤكد الكنيسة القبطية الأرثوذكسية أن الإنسان قيمة عليا، وأن الصحة النفسية ليست ترفًا، بل ضرورة. إنها تمضي بخطى ثابتة لتكون كنيسة قريبة من الوجع، وملجأ حقيقيًا للمتعبين. وبهذا، تبني جيلاً جديدًا أكثر وعيًا، أكثر توازنًا، وأكثر قدرة على العطاء والحياة.

Trending Plus