الثأر في مصر وتفكيك الموروث.. قضية أمن قومي

أ.د/ مها عبد القادر
أ.د/ مها عبد القادر
بقلم أ.د/ مها عبد القادر

تشكل بعض القضايا المترسخة في بنية الوعي الجمعي تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي، ومن أبرز هذه القضايا ما يتعلق بالثأر في المجتمع المصري، حيث تعد مأزقًا حضاريًا وعبئًا مركبًا يستنزف البنية النفسية والاجتماعية، وتجمع بين سلطة العرف ومشروعية القانون، وتعرقل الجهود التنموية لصالح الموروث الاجتماعي، وتكمن الخطورة في كون الثأر يستعاد كممارسة اجتماعية متوارثة، تنتج نفسها عبر الزمن، وتشرعن العنف في الوجدان الجمعي.


ويتجلى ذلك بشكل خاص في صعيد مصر وبعض قرى الوجه البحري، حيث تُورث الخصومات كما تُورث الأرض والعادات، وينظر إلى العفو أحيانًا على أنه ضعف أو تهاون، في حين أن العفو الحقيقي لا يقدم عليه إلا من امتلك وعيًا إنسانيًا راقيًا، ورؤية تتجاوز اللحظة الغاضبة نحو أفق أرحب من السكينة والعدل، وفي المقابل يُحتفى بمن يأخذ بثأره باعتباره بطلًا يعيد الاعتبار لأهله، مما يجعل من الفقد الفردي مأساة جماعية، ويدخل المجتمع في حلقة مفرغة من العنف الموروث يعاد إنتاجها جيلًا بعد جيل، ومن المؤسف أن هذه الثقافة تتسرب إلى الوجدان العام وتسهم في التأثير السلبي علي النسيج الاجتماعي.


ويمثل الثأر في جوهره انحدارًا مأساويًا نحو منطق القوة والخلط بين الجاني والبريء، واستبدال العدالة بالانتقام، فيسفك الدم لمجرد القرابة من الجاني، وتتحول صلة الرحم إلى عبء قد يكلف الإنسان حياته، فعندما تُزهق الأرواح البريئة بذريعة استرداد الكرامة، يفقد القتل معناه القانوني والإنساني، ويتحول إلى فعل غرائزي جامح، يشبع رغبة دفينة في الثأر لا تحقق العدل ولا تعيد الحق.


وتستمد هذه الظاهرة قوتها من بنية ثقافية تمجد العنف، وترى في السلاح وسيلة لحسم الخلافات، وتُضفي على الانتقام بُعدًا بطوليًا زائفًا، كما أن التراكمات النفسية الناتجة عن الألم والخسارة لها دورًا في تغذية هذا السلوك، إذ يجد فيه البعض متنفسًا لمشاعر القهر والعجز ولا يمكن إغفال أثر بعض الأعمال الفنية والدرامية التي عن قصد أو دون قصد تكرس صورة الثأر بوصفه مظهرًا من مظاهر الرجولة، وتعيد إنتاج الربط الذهني الخاطئ بين الكرامة والعنف، فتقدم الحكايات في قوالب درامية مشوقة، لكنها تفتقر إلى المسؤولية التربوية والاجتماعية، فتشوه صورة القانون وتغذي نزعات العنف والثأر.


ولا تقتصر آثارها على الدماء المراقة ولكن تمتد لتضرب البنية المجتمعية من الداخل، فتحول العلاقات الطبيعية بين الجيران والأسر إلى صراعات معلنة أو صامتة، وتعطل مسارات التنمية في المناطق التي تهيمن عليها ثقافة الانتقام، نتيجة لصعوبة جذب الاستثمارات، وغياب الأمن اللازم للتعليم والعمل والحياة الكريمة، والأخطر من ذلك أن الثأر يمثل خرقًا مباشرًا لسيادة الدولة، وتهديدًا لاحتكارها المشروع لاستخدام القوة فحين تُؤخذ العدالة باليد يفهم ضمنيًا أن الدولة عاجزة عن أداء وظيفتها، وهو ما يقوض المجتمع ويضعف الثقة في المؤسسات ويكرس منطق الفوضى والغلبة بدلًا من سيادة القانون.


وقد جاءت الشرائع السماوية وفي مقدمتها الإسلام، بكلمة فاصلة في قضية القصاص والثأر، إذ شرع الإسلام القصاص باعتباره وسيلة لتحقيق العدل وردع الجريمة، لكنه في الوقت ذاته رفع من شأن العفو، وجعل منه فضيلة أخلاقية تسمو بالمجتمع، كما أكد الإسلام أن إنفاذ القصاص ليس من حق الأفراد، بل من اختصاص الدولة ومؤسساتها القضائية، حفاظًا على النظام العام، وصونًا للدماء ومنعًا للفوضى، فقال تعالى ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، في إشارة واضحة إلى أن تحقيق العدالة لا يتم إلا من خلال نظام قضائي منضبط، يحتكم إلى الشواهد والأدلة، ويضمن الإنصاف بعيدًا عن الأهواء والنزعات الشخصية، وقد جسّد النبي محمد ﷺ هذا المعنى في سلوكه العملي، فكان نموذجًا في العفو والصفح، ولم يرد الأذى بالأذى، بل اختار التسامي والعفو، ويعد فتح مكة مثالًا خالدًا على هذا النهج النبوي، حيث عفا عمن آذوه، ليؤسس بذلك لمرحلة جديدة من التعايش والتسامح ترتكز على تجاوز الأحقاد وبناء مجتمع سليم يستند إلى الرحمة والعدل.


وقد أدركت الدولة المصرية منذ وقت مبكر خطورة ظاهرة الثأر باعتبارها تهديدًا مباشرًا للسلم الأهلي، وتقويضًا لسيادة القانون، وترسيخًا لمنطق الانتقام وانطلاقًا من هذا الوعي، تبنت الدولة عددًا من الإجراءات لاحتواء الظاهرة، بدءًا من سن تشريعات تجرم ممارسات الثأر، ومنح الأجهزة الأمنية والقضائية صلاحيات واضحة للتعامل مع هذه الحالات، وصولًا إلى إطلاق مبادرات للمصالحة المجتمعية في عدد من القرى والمراكز التي كانت بؤرًا ملتهبة لهذا النمط من العنف العائلي، وقد نجحت بعض هذه المبادرات في تهدئة النفوس وحقن الدماء، ولكنها رغم أهميتها تبقى حلولًا موضعية لا تعالج جذور المشكلة، ولا تضمن استدامة الأمان المجتمعي، فالمعالجة الجذرية تقتضي مشروعًا وطنيًا متكاملًا لإعادة بناء ويؤكد على قدسية الحياة ويُرسخ لثقافة الاحتكام إلى القانون ونبذ سفك الدم.


ولعل الخطر الأكبر في ظاهرة الثأر يكمن في قدرتها على إعادة إنتاج ذاتها عبر الأجيال، مما يُهدد استمرارية أي تقدم تنموي وتدرك الدولة المصرية خلال خوضها معركة التنمية الشاملة، أن البناء الحقيقي لا يكتمل دون تفكيك هذه الظواهر التي تُفرغ الإنجاز من محتواه الإنساني، فالمشروع الوطني يسعي لإعادة تشكيل الوعي الجمعي، وتجديد العلاقة بين المواطن والدولة على أسس من الثقة، والمشاركة، والعدالة، ويعد التصدي للثأر جزءًا منه وتتكامل فيه الأدوات القانونية والثقافية والدينية والتربوية، ويُعاد فيه بناء الإنسان بوصفه محور البناء والتغيير.


وتتطلب معالجة هذه الظاهرة اختراق البنية العميقة للموروث الثقافي، على مستوى السلوك وفي صلب المفاهيم التي تشكل وعي الجماعة، فلا بد من إعادة صياغة مفاهيم الشرف والكرامة والعار، بمفاهيم بديلة تنطلق من سيادة الحق واحترام قيمة الإنسان، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهنا يبرز دور النخبة بوصفهم ضمير المجتمع وطلائعه الفكرية في إنتاج خطاب عقلاني يرسخ الهوية المصرية دون أن يعيد إنتاج التقاليد السلبية الموروثة، حيث يعد تحويل الألم إلى وعي، والموروث السلبي مسؤولية وطنية ومجتمعية، يتطلب شجاعة فكرية ومشاركة شعبية واعية تضع الإنسان في قلب المعادلة، وتستبدل منطق الثأر بمنطق القانون، وردود الفعل الغريزية بوعي مدني ناضج.


ونؤكد أننا اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخ الدولة المصرية؛ لحظة تستدعي بناء وعي وطني يؤسس لروح الجمهورية الجديدة، التي تضع الإنسان في مركز مشروعها، وتعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على أسس من الثقة، والمسؤولية، فالحياة الإنسانية أسمى من أن تستباح تحت أي ذريعة وأقدس من أن تختزل في دوائر الدم والثأر، وهي قيمة عليا ومقصد وجودي وأمانة في عنق الإنسان والمجتمع والدولة، وأي مبرر يستدعى لتبرير انتهاكها أو التساهل في سفكها هو خيانة صريحة لمبدأ الإنسانية، ومن ثم فبناء وطن عادل لا يتحقق إلا حين نعلي من قيمة الإنسان، ونكسر أغلال العنف الموروث، ونجعل من القانون مرجعيتنا العليا، ومن الوعي ركيزة حضارية لا تمس، ففي كل قطرة دم تحقن، تمنح حياة وتعطي فرصة للنهوض، ويستعاد الوطن حقه في الأمان والاستقرار.

___

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اليونسكو: 40% من مواقع التراث المهددة تقع فى الشرق الأوسط بسبب المناخ والنزاعات

ريال مدريد يرصد أعلى مكافأة فى تاريخه للتتويج بلقب كأس العالم للأندية

بدء غلق مؤقت للطريق الإقليمي لمدة أسبوع بدءا من اليوم

أسرع قطارات السكة الحديد.. اعرف مواعيد قطار تالجو اليوم الثلاثاء

الأكثر تحقيقا للأرباح في كأس العالم للأندية قبل نصف النهائي.. إنفو جراف


انتحار نائب بالبرلمان الفرنسى شنقا فى منزله

مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 8 - 7 - 2025 والقنوات الناقلة

بعد هجوم بيت حانون.. "القسام": سندك هيبة جيشكم وجنائزكم ستصبح حدثا مستمرا

رئيس إشبيلية يُغري ياسين بونو بالعودة إلى الليجا

مقتل 5 جنود إسرائيليين وإصابة 10 آخرين في "كمين كبير" بغزة


إصابات خطيرة بين جنود الاحتلال في شمال غزة

للمرة الثانية..السيطرة على حريق مبنى سنترال رمسيس والإطفاء تبدأ التبريد.. صور

المصرية للاتصالات: فصل التيار خلال الحريق سبب تأثر الخدمة.. وتعويض المتضررين

الاتحاد يضع الرتوش الأخيرة على صفقة تبادلية مع سيراميكا.. بيع مغربى وضم 3 لاعبين

تجدد اشتعال النيران في مبنى سنترال رمسيس والإطفاء تحاول السيطرة.. صور

غزل المحلة يضم أحمد شوشة لمدة 3 سنوات

الاتحاد السكندرى يتفق على أولى ودياته استعدادا للموسم الجديد

"تنظيم الاتصالات": تعويض العملاء المتأثرين بتعطل الخدمة بعد حريق السنترال

مدافع الاتحاد السكندرى ينضم إلى دجلة فى صفقة انتقال حر

رسامة جديدة تعلن: مها الصغير نسبت لوحتى لنفسها.. لست الأولى فقد سرقت 3 آخرين

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى