الجار قبل الدار

في زحام هذا الزمن المتسارع، حيث تُبنى الأبراج وتُغلق الأبواب وتُعزل القلوب خلف الجدران، نحتاج إلى أن نتوقف قليلًا، لنستعيد ذاكرة البيوت التي كانت تنبض بالمحبة، لا بالكاميرات والجرس الكهربي.،كانت الجيرة حياة، لا مجرد مسافة.
الجار في الماضي لم يكن جارًا بالعنوان، بل بالمعنى، لم تكن البيوت تسكن جنبًا إلى جنب فقط، بل كانت الأرواح تسكن قلوب بعضها البعض، كان الجار يعرف أن طفلك مريض دون أن تخبره، وأنك حزينة دون أن تُظهري، فيرسل لك طبق شربة وقطعة حلوى، قبل أن يصلك السؤال.
كانت "الجيرة" علاقة مفعمة بالتكافل، لا تُبنى على تبادل الأطعمة فقط، بل على تبادل القلوب، كانت السيدات يتقاسمن الطبخة كأنهن يتقاسمن قسطًا من الحياة، وكانت رائحة الملوخية في بيت تعني أن نصف العمارة ستأكل منها اليوم.
الطبق الطائر.. بطل المشهد الشعبي اليومي، يدخل بيتًا فيخرج من آخر، لا يتوقف، لا يهدأ، لا يعرف الخصوصية القاسية التي صنعناها لاحقًا، طبقٌ يُحمَّل بالمحشي، ويعود محمّلًا بالكنافة، لا أحد يحسب، لا أحد يمنّ، الكرم كان فطرة، والستر كان ثقافة.
وكان الحزن موزعًا بعدل بين الجميع، والفرح يُحتفل به جماعة، إذا صرخ طفلٌ في بيت، تحركت أمّهات الطابق كلّه، وإذا انطفأ نور بيت، أُضيئت له بيوت الجيران بالدعاء والمواساة.
لم تكن الأفراح حكرًا على أهل البيت، بل تبدأ من الجيران أولًا، تفرش سيدة السلم بالورود، وتُجهّز أخرى الشاي، ويتجمّع الجيران على صوت الزغاريد كأنهم عائلة واحدة بلا نسب.
"الجار قبل الدار" لم تكن مجرد حكمة متوارثة، بل كانت دستور حياة، كان الإنسان يسأل عن جاره قبل أن يشتري البيت، لا ليتفقد هدوءه بل ليطمئن أنه سيؤتمن على جدران العمر، أن يكون له في الحزن سند، وفي الفرح شريك، وفي الغياب عينًا لا تنام.
ثم جاء زمن تغيرت فيه المفاهيم، فتراجعت الجيرة، وانكمشت العلاقات في أجيال السوشيال ميديا، أصبحت الجدران أكثر سماكة، والقلوب أكثر تحفّظًا، صار الجار مجهول الاسم، رغم أنه يجاورك بالحائط والنفس.
لكن الحقيقة الثابتة، أننا ما زلنا نشتاق لذلك الزمن، وما زالت نفوسنا تبحث عن طبق طائر، لا يحمل طعامًا فقط، بل يحمل "أنا فكّرت فيك"، عن باب يُطرق دون موعد، فقط ليسأل: "محتاج حاجة يا جاري؟"
لعلنا نعيد زرع هذا الدفء من جديد، في أول طبق نرسله، وفي أول ابتسامة نُهديها، وفي أول مرة نقول فيها: "أنا جنبك يا جاري، كما كانت أمهاتنا تقول دائمًا دون تكلّف.

Trending Plus