التاريخ لا ينسى الشجعان.. تحية إلى هذا الرجل عدلى منصور

التاريخ يذكر دائما أن هناك رجالا أصحاب مواقف إنسانية ووطنية، سطروا بحروف من ذهب أسماءهم في دفاتره، رجال لمعت معادنهم الأصيلة وقت الشدائد والمحن التي مرت بالأوطان. لم يتواروا أو يختبأوا أو يهربوا من تحمل المسئولية والأمانة الوطنية في أصعب صورها، بل تقدموا بصدورهم وقدموا أرواحهم فداء للوطن في لحظة سياسية فارقة من تاريخه ومحاضره ومستقبله.
مساء يوم الأربعاء الثالث من يوليو من عام 2013 تجتمع القوى الوطنية المصرية بدعوة من القوات المسلحة لوضع خارطة طريق لثورة الثلاثين من يونيو ويقف الفريق أول عبد الفتاح السيسي- وزير الدفاع وقتها- ليلقى خطاب وافق عليه جميع الحضور، معبرا عن طبيعة المرحلة الصعبة التي تمر بها مصر بعد إزاحة الشعب لجماعة الإخوان الإرهابية من الحكم، وكان الخطاب بمثابة شهادة وفاة لحكم الإخوان، وإنقاذ مصر من الفوضى والفتنة ورسم خارطة المستقبل.
ويعلن وزير الدفاع ملامح هذه الخارطة، ومنها تفويض رئيس المحكمة الدستورية العليا بادارة شئون البلاد، إلى حين إجراء انتخابات رئاسية حرة.
ويبدو أن هذا القاضي الجليل المستشار عدلي منصور كان على موعده مع القدر وكتابة فصل من أخطر الفصول في تاريخ مصر.
المفارقة أنه قبل ذلك بأيام قليلة وقبل إعلان اسمه كرئيس مؤقت، وتحديدا يوم 30 يونيو، كانت الصحف ووسائل الإعلام المختلفة تبحث عنه وعن سيرته وصورته بعد أن تولى – ورقيا - منصب رئيس المحكمة الدستورية، ولم تتح له الفرصة أن يقسم اليمين أمام اعضاء المحكمة الدستورية خلفا للمستشار ماهر البحيرى.. وكان عليه أن يؤدي اليمين مرتين في أقل من ساعة، اليمين الأول قضائيا كرئيس للمحكمة الدستورية، والثاني سياسيا كرئيس مؤقت لمصر.
القاضي الجليل الذي كان يبلغ وقتها من العمر 68 عاما قفز إلى صدارة المشهد وفي وجه المدفع - كما يقال- فقد تولى منصبه فى ظرف بالغ الحساسية، قادما من هيئة قضائية ذات تقاليد رصينة، كانت تصنفها وتضعها جماعة الإخوان ضمن المؤسسات المعادية لها والمشاركة فى مؤامرة ضدها، بل وحاصرها أنصار تنظيم الإخوان الارهابي في يوم 2 ديسمبر 2012، يوم لن تنساه مصر، وفى واحدة من أبشع الجرائم التى ارتكبها التنظيم فى حق القضاة، خلال فترة تولى محمد مرسى حكم البلاد، ومحاولة تنظيمه منع المحكمة من الانعقاد حتى لا تنظر فى حكم حل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور وتقضى ببطلان مجلس الشورى.
من اللحظات الأولى عقب أدائه اليمين الدستورية كرئيس مؤقت لمصر، المستشار عدلي منصور بثقة وتقدير المصريين الذين استمعوا إلى أول كلماته الراقية والمحددة والحاسمة ولغته المنضبطة المؤثرة وبابتسامة لافتة بدت وكأنها ترسم صورة وملامح الرئيس الجديد القادم من منصة القضاء الشامخ: "تلقيت ببالغ الإعزاز والتقدير تكليفي بتولي رئاسة الجمهورية خلال الفترة الانتقالية لمصر. و أن تكليفي بالرئاسة جاء ممن يملك إصداره وهو الشعب المصري".
وأضاف: "إن 30 يونيو جمع كل المصريين دون تمييز، وإن الشعب أثبت للدنيا أنه لا يلين ولا ينحني ولا ينكسر". وأن القضاء المصري تحمل بصبر كل محاولات الاعتداء على استقلاله"، موضحاً أن رجال الشرطة أدركوا أن مكانهم الحقيقي هو إلى جانب الجماهير".
خاطب عدلي منصور شباب مصر موجها لهم نداء قويا: "أرجو ألا يرحل الثوار عن الميدان، يظل المصريون هناك يتناقلون الراية جيلا بعد جيل، يسطرون لهذه الثورة آيات الخلود والرفعة، ولا أقصد بالميدان حدود المكان ولا الوجود الجسدى فيه، وإنما أن تتجدد روح الميدان فى نفوس المصريين جميعا متوثبة يقظة تحمى الثورة وتحرسها فى مستقبل الأيام والسنين. علينا التوقف عن إنتاجنا فى صناعة الطغاة فلا نعود نعبد من دون الله ــ جل جلاله ــ صنما ولا وثنا ولا رئيسا".
كان رئيسا استثنائيا بامتياز من حيث مواجهه أصعب وأعقد الظروف السياسية والأمنية، وواجهه بثبات وصبر وحسم وحزم موجة الارهاب الأسود الذي ضرب في كل مكان في مصر، والأزمات الاقتصادية التي خلفها الاخوان واهتراء مؤسسات الدولة، وشهد له الجميع بالقدرة والحنكة السياسية، وهو القاضي الذي لم يسبق له الدخول إلى ملعب السياسة، ولكنها قدرات الرجال ومعادنهم الأصيلة حتى أن كثيرين طالبوه قبل انطلاق الانتخابات الرئاسية بالترشح لتولى الرئاسة بشكل دائم.
أتذكر هنا أيضا خطابه بعد 6 أشهر من توليه إدارة شئون البلاد كرئيس مؤقت لمصر وفي ذكرى 25 يناير، وعقب الاستماع إلى الخطاب الواضح والقوي، همس كثيرون بأن هذا الرجل يصلح أن يكون رئيسا حقيقيا وليس مؤقتا. فالخطاب عبر بصدق واضح ويقين قاطع عن إرادة الدولة المصرية وقدرتها على تحقيق أهدافها وغاياتها فى طريق المستقبل ضد إرهاب أعمى يظن من يقف وراءه أنه قادر على كسر إرادة المصريين واسقاط الدولة بمؤسساتها الوطنية.
الخطاب زاد من احترام المصريين له كرجل يتولى شؤون مصر فى أقسى وأصعب اللحظات والظروف فى تاريخها الإنسانى، بقدر هائل من العقل والحكمة وحسن الإدارة والوعى بحدود وأبعاد دوره كرئيس لمرحلة انتقالية وكرجل قضاء له من المهنة شموخها وهيبتها وجلالها. وربما لو كانت مصر فى مرحلة أقل عنفا وتوترا لكان المستشار عدلى منصور لائق ومناسب جدا لرئاسة الجمهورية عبر انتخابات حرة.
التاريخ سيكتب عن هذا القاضي الجليل أنه تحمل الأمانة والمسؤولية الجسيمة بكل شجاعة وحمل روحه وحياته وحياة أسرته فوق كفه ولم يهرب أو يتهرب ترددا أو خوفا، ووقف كالجندى فى ميدان المعركة يواجه المخاطر بكل جسارة وشجاعة من أجل وطنه دون مغنم أو مطمع فى منصب، ولم يلتفت إلى تفاهات وسخافات تقوَل بها بعض السفهاء على منصب «الرئيس المؤقت» بسخرية مقيتة تجاوزتها مواقف الرجل وكلماته واحترام الشعب له ولدوره.
أثبت عدلى منصور أن الرجال مواقف، وأن مصر لا تنضب أبدا من رجالها الأكفاء والمؤهلين والمستعدين دائما للتضحية والفداء، وأكد أنه قامة وطنية ومن طراز نادر من رجالات الدولة الحقيقيين، الذى لا يمكن الاستغناء عنهم.
استحق المستشار الرئيس عدلي مصر ثقة وتقدير وحب المصريين له ووقف الجميع يصفقون له يوم تنصيب الرئيس عبد الفتاح السيسي إجمالا وتعظيما له وعلى دوره الوطني المخلص. وجاءت دموعه خير رد على هذا التقدير وفي لحظة تاريخية نادرة بمنحه من الرئيس السيسي قلادة النيل العظمى كأول قرار من الرئيس الجديد.
تحية إلى هذا الرجل القاضي الجليل المستشار عدلي منصور في ذكرى مرور 12 عاما على ثورة 30 يونيو . فالشعب لا يمكن أن ينسى له دوره لاتاريخي وموقفه الوطني الشجاع.. فمصر لا تنسى أبدا رجالها الشجعان.

Trending Plus