دول وظيفية وتعاريف مخادعة.. عن هدنة غزة والحاجة لتسمية فوق النكبة والنكسة

من طول ما خيّمت المأساةُ على سماء المنطقة، وتنفَّست من رئات ضحاياها حتى أفنَتْ منهم الآلاف؛ صار الأمل الوحيد أن تتوقَّف المذبحة؛ وليكن ما يكون.
اليائسون يتطلّعون إلى فسحةٍ من الموت العميم، والمتفائلون يتعشَّمون فى أن يكون وقف الحرب فاتحةً لاستدراك الحياة فى نَزعها الأخير.
فيما الهُدنة، وعلى كلِّ مصاعبها، تبدو الخطوة الأسهل على الإطلاق فى مسار طويل، شديد التعقيد، ولن تنتهى فصولُه السوداء بإسكات البنادق للأسف؛ إنما ستقفُ فيه غزَّة أمام استحقاقاتٍ أشد غموضًا وإزعاجًا، وأقرب إلى التيه من النجاة.
دورة جديدة من التفاؤل فى طَور التشكُّل، وأقرب إلى الاكتمال اليومَ من محطَّاتٍ عدَّة سابقة؛ لكنها ليست الأُولى على كلِّ حال.
ما تزال التناقضات الكبرى حاكمةً لخيارات الطرفين: الاحتلال والفصائل؛ فالأول يتمسَّك بالوصول إلى منابع الطوفان وإنهاء حقبة حماس فى القطاع، والأخيرة تدافع عن وجودها؛ ولو تكلّفت القضية أضعاف ما نزل على رؤوس أهلها.
أمَّا الإرادة الأمريكية فتنصرف إلى التلفيق لا التوفيق، وتحاول تمرير الوقت من قوس الانسداد الراهن، على أن يُرجأ الاصطدام بالتحديات إلى مرحلة تالية. كل ما فات مُجرَّد مُقدمات؛ وتظل الترتيبات النهائية مُعلّقة على التسوياتِ المرحليّة.
يعود نتنياهو إلى البيت الأبيض للمرَّة الثالثة فى أقل من ستّة أشهر. وبهذا لا يتميَّز فقط على أىِّ زعيم أجنبى آخر؛ بل يُسجّل سابقةً شخصية فى مسار علاقته مع الإدارات الأمريكية، ويُنهى كل ما أُثير عن التعارُض أو افتراق الرؤى والمسارات.
كانت الرحلة الأُولى فى فبراير، بعد أسبوعين فقط من عودة ترامب للسلطة، وقتها كانت الهدنة سارية فى غزّة، والمداولات تدور فى سياق تجاوُزِها إلى ما بعدها من باقة الأهداف الإسرائيلية. وفاجأ الرئيسُ العالمَ بخطَّته لإجلاء الغزِّيين وابتلاع أرضهم، تحت عنوان مشروعه عن "الريفييرا الشرقية".
أمَّا الرحلة الثانية فاستبقت مفاوضات واشنطن وطهران بشأن البرنامج النووى، ومُنِحَ فيها زعيم الليكود على ما تكشَّف لاحقًا، وعدًا بتفعيل الخيارات الخَشِنَة حالما تنقضِى مُهلة الشهرين المنصوص عليها فى خطابٍ تلقَّاه المُرشد الأعلى على خامنئى.
ما يعنى أنَّ الجولتين جاءتا فى سياق تهدئةٍ قائمة، أو تحضيراتٍ خَفيَّة للحرب، وبالتالى تختلف الجولة الحالية عنهما فى أنها تأتى تاليةً للهجوم على إيران، وفى أجواء العدوان المُتّصل على الغزِّيين؛ وبهذا يترجَّحُ احتمال أنها ورشةٌ لقَطف الثمار، لا زراعة مزيدٍ من الأشواك.
غير أنَّ الاستحسان المبدئى، وافتراض صفاء النوايا من جهة الحليفين التاريخيين، يتلاقى دومًا مع ما يُثير الشكوك بشأنه ويُوجِبُ الارتياب والحذر.
ذلك أنَّ الإدارة الأمريكية غير مَعنيَّةٍ بالمسألة الإنسانية من بابها، وسبق أن صرّحت بموقفها الرافض لحضور حماس، أو بقائها فى المشهد بأية صورة صاخبة أو ناعمة.
أى أنها تضطلع بمهمَّة الوساطة من جهة الانحياز أصلاً، ومن ثمّ فلا يُعَوّل عليها فى أن تكون ضامنًا لأيّة مُخرجاتٍ تتعارض مع أولويَّاتها المُعلَنة، ومع شواغل ربيبتها الصغيرة بالتأكيد.
وقد اختبرت المنطقةُ لعبةَ توزيع الأدوار بين الطرفين كثيرًا، وآخرها عملية الخداع التى لعب فيها ترامب دورًا تمثيليًّا مُضلِّلاً لإيران، فرشَ لها الطريق إلى الطاولة بالورود، بينما كان يُذَخّر طائرات الصهاينة بالقنابل.
أُلقِيَت الكُرةُ مُجدَّدًا فى ملعب الحماسيين، وبات عليهم أن يقبلوا بما كانوا يرفضونه سابقًا، أو الاستمرار فى مغامرة إرخاء الحبل للعدو وإمداده بالذرائع.
تكرَّر المشهد منذ الهُدنة الأُولى فى نوفمبر 2023، مرورًا بأوراق باريس ومُقترَحَى القاهرة وبايدن حتى مايو التالى، قبل أن تعود الحركة للمُوافقة على النصوص ذاتِها ممهورةً بتوقيع المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف فى يناير الماضى.
وما يُعرَضُ عليها الآن لا يختلف كثيرًا عمَّا كان مطروحًا منذ انقضاء المرحلة الأُولى للصفقة فى مارس. كأنها أدمنت أن تأتى مُتأخِّرةً فى كلِّ مرّة، وأن تدفع أثمانًا مُضاعَفةً فيما كان يمكنُ تحصيل أفضل منه بكُلفةٍ أقل.
أمَّا على الجانب الآخر؛ فإنَّ حكومة اليمين المُتطرِّف فى إسرائيل تتدرَّج صعودًا فى تشدُّدها، وقد أغرتها النجاحات المُتحقِّقة على بقيّة جبهات المُمانَعة بالإجهاز عليها دفعةً واحدة.
وأغلب الظنِّ أنَّ نتنياهو لن يُوقِّع على صفقةٍ تقفز استباقيًّا إلى محطّة إنهاء الحرب، من دون ضماناتٍ عمليّة لتحييد ما تبقَّى من سلاح حماس ومرافقها الإدارية.
والحركة ما تزال تُناور فيما يخصُّ انتزاعَها من آخر معاقلها وأهمِّها على الإطلاق.
وعليه؛ فإنَّ إرادة واشنطن المنصرفة إلى إنجاز أىِّ نجاحٍ؛ ولو كان جزئيا، لن تُغرِقَ فى التفاصيل سعيًا إلى تجنُّب التعطيل أو تفويت حالة الزخم المُحفِّزة على الاتفاق، وستسعى إلى استخلاص تهدئةٍ وقتيّة، على أمل أن تتحرَّك الأوضاع والرُّؤى فى غضون الستين يومًا المُقبلة.
فإمَّا تُغيِّر الحركةُ منطقَها الانتحارىَّ، أو يقتنع الاحتلالُ بانحلال سُلطتها الفعليَّة، مع إمكانية استيعاب بقاياها الباهتة ضمن الترتيبات الجديدة؛ وإلَّا فالعودة إلى دوَّامة الحرب مرَّةً أُخرى.
والخُلاصةُ العامّة؛ أنها مرحلةٌ ملغومة كسابقاتها، ونُذُر الخطر فيها أعلى من مستويات الأمان. لكن الأكثر إثارة للقلق ليس أن تفشل المحاولة جريًا على سابق العادات؛ بل أن تنجح من دون التوفُّر على أُفقٍ سياسى وبدائل عملية جاهزة.
وبهذا؛ ستجد غزَّة نفسَها على موعدٍ مع فوضى الحرب فى زمن التهدئة، وفى عُهدة الضياع الذى تُنتجه السيولة وغياب البرنامج الوطنى الجامع، وكان مستورًا فى السابق بمقتضيات المحنة، وعلّة الاشتباك مع عدو جارح.
إنْ استبدّت حماس باللحظة وأبَتْ الخروج؛ فكأنها تنسج لغريمها شبكةَ اصطيادٍ جديدة، ولو تقبَّلت التضحية وفكّت وثاقَ البيئة المنكوبة بها دون وفاقٍ فلسطينى كامل، فلعلّها تصنعُ محنةً أكبر للمنكوبين، وتُطوّح كُرةَ اللهب على الأصدقاء والجيران بلا استثناء.
يجبُ أن يكون البديل فلسطينيًّا خالصًا. ربما تُواكبه حاضنةٌ إقليمية أو دوليّة؛ لكنها لا يُمكن أن تنوب عن المُلاّك الأصليِّين أو تضطلع بأدوارهم.
والطبيعى والمعروف أنَّ تل أبيب ترفض استبدال السلطة بالحركة؛ لكن المساحة بين العنوانين عريضة للغاية، وتتسع لوصفة ثالثة، قوامها ابتكار هيئة مدنية غير فصائلية، أو إدارة من التكنوقراط يُمثّلون تياراتهم بالخبرة لا الأيديولوجيا.
فيما الحادث أنَّ مسار الحوار الداخلى مُنقطعٌ تقريبًا، أو شبه مُعطَّل بإرادة الفاعلين داخل القوى والحركات، ومن أسف أن قادة حماس فاوضوا الصهاينة واحتملوا سخفهم، بأكثر ممَّا التقوا الأشقاء فى فتح وغيرها، وبحثوا معهم أوفق السُّبل لقطع الطريق على شطب الفلسطينيين من معادلة فلسطين، أو إقليمها الجنوبى المُتمِّم لحلم الدولة الواحدة على الأقل.
استغرق الطوفان كاملَ طاقة حماس وعافيتها. انفرادًا بالتحضير والقرار أوّلاً، ثمّ استبدادًا بإدارة التداعيات واحتكار الحديث بشأنها دون المجموع. وعلى ما يبدو بعد عشرين شهرًا؛ فقد وُضِعَ القطاعُ فى قلب لعبة أكبر منه، وتتخطَّى شواغله الحيوية ومصالحه العليا بكثير.
سواء أراد السنوار أن يُفعّل خطّة المُمانَعة بشأن حصار الاحتلال وإحكام طوق النار من حواليه، أو استدعاء الحلفاء إلى جولة كانوا يُرجئونها ولم يستعدّوا لها، وربما الإجهاز عليهم بالتساوى مع تطلُّعه لإرباك جهاز نتنياهو الأمنى واستدعائه إلى مُنازلة مفاجئة.
فالواقع بعد فائض الدم والأشلاء والخسائر الاستراتيجية القاسية؛ أنه لم يَعُد معروفًا على أى أساس أُرسِيَت تلك المغامرة، ولا لأىِّ غرض على وجه التحديد.
المؤكد أن العملية كانت جزءًا من مخطّط أوسع، دعمته إيران واحتفظت لنفسها بحقِّ الشرارة الافتتاحية وتحديد ساعة الصفر. ما كان بإمكان كتائب القسام أن تتجهَّز لعملية بهذا الحجم دون احتضان ورعاية، وإسناد مادى ولوجستى يتجاوز مُتطلّباتها فى الأوقات الاعتيادية.
وبقدر احتمالية أنها كانت خطة بديلة لوقف مسار الاتفاقات الإبراهيمية؛ لا سيما بعد اتفاق المصالحة بين الرياض وطهران برعاية بكين، وانسداد طريق الأخيرة فيما يخص التشغيب على قنوات التطبيع أو إزعاج الجيران فى الخليج؛ فالاحتمال قائم بالدرجة نفسها لجهة التملّص من التزامات الجمهورية الإسلامية، أو وضعها فى بوتقة النار رغما عنها، خصوصا أن انفجار الطوفان استبق جولة حوار مُجدولة لها مع الولايات المتحدة، وبفارق يومين تقريبا.
وهو ما يشى باستشعار السنوار أنه ذاهب إلى مرحلة من التسويات الإقليمية قد تتركه عاريًا، أو تُخرجه من حسابات القوى الفاعلة فى محوَرَى المُمانَعة والاعتدال، وعليه بالضرورة أن يستبِقَها بخَلط الأوراق، وإثارة الغبار فى أجواء الطرفين.
لا تخلو الحسابات على تلك الصورة من نزقٍ فادح؛ لأنها تأسست على افتراضات ذهنية عتيقة بشأن استراتيجيات إسرائيل الحربية، أو أن الفواعل الإقليمية قد تغامر بالدخول فى مواجهة مع الدولة الصهيونية، مع يقينها الكامل من أنها ستؤول حتمًا إلى صدام مباشر مع الولايات المتحدة وبقية العائلة الغربية.
ومن نتاج ذلك؛ أنه فتح طريقًا تطوُّعية للعدو باتجاه بقيّة الساحات الحليفة، وأربك العواصم الأمينة على القضية من دوائر الاعتدال، بقدر ما سمح لغيرها بالتمادى فى طموحات إعادة ترسيم المنطقة جيوسياسيًّا بما يوافق تطلُّعاتها، أو على الأقل عزَّز قناعتَها بمشروعها للسلام الاقتصادى، وإمكانية الخلاص من عبء الأُصوليَّة، مُمثّلة فى بقايا الإخوان ومفاصل الشيعية المسلحة المُتَّصلة بها تحت العنوان الفلسطينى.
وكان تحييد حزب الله فى لبنان إشارةً مُبكّرة إلى هشاشة الغريم الذى أقضَّ مضاجعَهم عقودًا، وسقوط نظام الأسد دليلاً على الانحسار ودخول طور الأُفول، وأخيرًا الضربة المباشرة فى إيران إيذانًا بإخراجها من المُعادلة الإقليمية العريضة، أو فى الحدِّ الأدنى تقليم أذرعها وترشيد امتدادها وتدخُّلاتها المزعجة.
وعندما يجلس نتنياهو إلى حليفه الوثيق دونالد ترامب اليومَ؛ فلن يخرج جدول الأعمال عن ثلاثة بنود: حصيلة الاشتباك مع إيران، وخطط التمدُّد الإبراهيمى، وتهدئة غزة المأمول منها أن تُفضى إلى وقف الحرب.
فى الأولى تضرَّرت طهران بعُمقٍ؛ ولو أنكرت، وستحتكر واشنطن بقيَّة المسار عبر جولات تفاوض من نقطةٍ أسوأ ممَّا كان عليه الملالى سابقًا. وفى الثانية لا تبدو الأجواء مثاليّةً تمامًا؛ لكنها محلُّ اختبارٍ من جهة النظام الجديد فى دمشق، ومقدار نجاحها سيكشف عن ترحيب أو رغبات أطراف عدّة تقف وراء الجولانى، أو تختبر به المجال على طريقة فئران التجارب وكاسحات الألغام.
أمَّا صفقة القطاع فستُبرَم فى كل الأحوال، وبصيغةٍ وَردية تُطمئن المُنزعجين لمأساة الغزِّيين، ولا تغلُّ يدَ نتنياهو عن العودة إلى الميدان حينما يُريد، وسيكون على حماس مُجدَّدًا أن تُوازِنَ بين الخاص والعام، وأن تستوعِبَ سابق الدروس وتتخيّر ما يُجنّب المدنيين أعباء المقامرة المفتوحة؛ خاصةً أنَّ الضدَّ لهذا لا يُجنّبها التكاليف الباهظة بفوائدها المُركَّبة سقطةً بعد أخرى.
لحظة التوقُّف المتوقعة ينبغى ألَّا تكون كسابقاتها، وأن يُشتَقَّ منها مسارٌ إنقاذىٌّ يتمرّد على الدوَّامة الاضطرارية، ولا يعود لتكرار الوقائع من نقطة الصفر؛ كما لو أن القادة الحركيين مُجرَّد طابور من السُذّج وممسوحى الذاكرة.
وفاتحة الاستبصار واستيعاب الدروس؛ إنما تبدأ من العودة إلى صبيحة السابع من أكتوبر، وإعادة تعريف التراجيديا مُتعدِّدة الحلقات والانتكاسات على وجهها السليم، ومن دون إغراقٍ فى الإنكار والاستكبار، وفى دعايات الانتصار التى تهين الضحايا ودماءهم، بأكثر مما تحفظ للحركة كرامتها وتستبقى شيئا من ماء الوجه كما تتوهّم.
عرفنا حال التعاريف المضللة فى السابق غير مرة. ضاعت الأرض وطُرد ساكنوها فأسميناها نكبة، وتجرأ الصهاينة على الجغرافيا والتاريخ وأوتاد المنطقة الراسخة فى يونيو 1967، فقلنا إنها مجرد "نكسة" عابرة، على معنى العثرة التى سنقوم منها حتما ودون أى شك.
وفيما ارتاح كثيرون إلى الصفة المُعتمدة لتمرير اللحظة، فربما أفلتت مصر وحدها من الفخ، مع مفارقة أن التسمية كانت من صناعتها بالأساس؛ لكنها تحلّت بما يكفى من الشجاعة للتداول فى الوقائع داخليا على معنى الهزيمة، دون مراوغة أو استعراضات بائسة؛ فتيسّر لها أن تتعرف على حجم النازلة ومواطن الضعف، وأن تأخذ الأمور بحقها علاجا واستعدادا، لتعوض عن الانكسار بالنصر العسكرى فى غضون ست سنوات فقط، وتتوافر بأثر الجاهزية والتوازن النفسى والتعقل على إمكانات الاشتباك السياسى، والفوز بالدبلوماسية والقانون كما فازت بالبندقية والقنبلة.
والراهن فى فلسطين وما وراءها، لا يقل فداحة عما كان فى النكبة أو النكسة؛ إن لم يكن أضعافها فى التكاليف المعجلة والمخاطر المؤجلة. وعليه؛ فإننا أحوج ما نكون اليوم إلى ضبط اللغة والخطاب، والخروج من رومانسية الطوفان وشعارات الصمود بالصدور العارية، إلى فضاء أكثر موضوعية وتواضعا أمام الحوادث وضغوطها الكاسرة.
إنها هزيمة ثالثة كسابقتيها، وعلينا تعريفها بمادتها الأصيلة، أو منحها تسمية كودية لا تخلط القديم بالجديد، ولا تُلحقها بغيرها مما كان شديد الوطأة فى زمنه، ويتضاءل كثيرا إزاء ما نعيشه فى زمننا.
ومن السخيف أيضا أن نسير على درب الآباء فى التسميات؛ فقد كانت النوازل تتعاظم علينا بينما ترق الأوصاف وتتخذ سمتا رومانسيا أميل إلى الهمس. خسارة يونيو 1967 أكبر من نسختها السابقة فى مايو 1948؛ لكن النكبة صارت نكسة، ويجب ألا نواصل الانزلاق على منحدر تخفيف الأقوال كلما ثقلت علينا الأفعال.
لتكن: إبادة، مذبحة، مقامرة انتحارية؛ لكنها ليست نكبة ولا نكسة، وبالتأكيد لا تُعدّ على الانتصار إلا فى خيال الأسافل والأصولية الوقحة.
وما يُعظّم من رماديّة اللحظة واستغلاقها؛ أن التوازنات تغيَّرت عن السابق، أو انقلبت على ذاتها. كانت إسرائيل دولةً وظيفية تنوب عن الغرب والولايات المُتّحدة؛ ولم تعُد وحدها للأسف.
ثمّة آخرون مُنتدبون للعب أدوار شبيهة، من جهة المنافع والصفقات الاقتصادية، أو بالتنازُع على الإمساك بخناق الإقليم وتسييره فى مساراتٍ مُضادّة لمصالحه الحيوية؛ وإن كانت أضعف من حسم المسألة بالضربة القاضية؛ فإنها قادرة على الإرباك وتقويض الخيارات الوازنة، وتسييل الكُتلة التى كانت صُلبة بما يُمهِّد لاتفاقاتٍ ستضرب أُسس الاتّزان فى المنطقة عاجلا أو آجلا.
الجولانى يضطلع بأدوار وظيفية واضحة؛ أكان لصالح رُعاته المباشرين فى الأيديولوجيا وغيرها، أو بالاستقطاب على أرضية الرؤية الأمريكية المُحدّثة للشرق الأوسط الجديد.
لا مانع لديه من محاورة الصهاينة تحت الاحتلال، وحتى لو تمنّع على التطبيع مؤقّتًا؛ فالتوصّل لتفاهمات أمنية دون جلاء عن المساحات المُقتطعة تحت ولايته، ناهيك عن استعادة الجولان التى ظل سنوات ينتسبُ إليها بالاسم، لا يُغيّر شيئًا من واقعه الأداتىّ المحمول على أهداف وطموحات وإرادة من الخارج، وأُنيطَت به لخفّة الشخص وقابلية الترويض؛ لا لجدارة فى ذاته أو مقدرة على ملء الشام المُفرّغ من كل عوامل القوّة تقريبًا.
ما بعد الهُدنة المُنتظرة؛ ستدخل غزّة فى استحقاقات الفوضى الفعلية؛ لا لأن وجود حماس كان مانعًا للفوضى لا سمح الله، ولكن لأن سياق الحرب على قسوته كان يُبشِّر بالانفراجة مهما ضاقت الحلقات، وعندما تنكسر الحلقة ولا تنفرج الأوضاع؛ سيكون على الغزّيين أن يُجرّبوا نسخة بدائيّة من الاجتماع البشرى، يأكلون فيها بعضهم ومَن تبقّى من جلّاديهم، أو يُحَمَّل العبءُ على آخرين يُرَاد لهم التورط فى المُستنقع، أو التكفل بإصلاح ما أفسده اليمين المُتخادِم على الجانبين: التوراتيين القوميين هناك، والحماسيين الإخوان هُنا.
تُفتِّش حماس عن النصر فى رُكام المحرقة، ويطمع نتنياهو فى تلزيم جنايته لأطرافٍ سيكون عليها الدخول أوّلاً للرعاية، ثم الخروج لاحقًا بالرعايا. الهُدنة أسهل المُتطلّبات؛ أما الأصعب فيخص اليوم التالى، وحال الحركة ومستقبلها، وطبيعة الإدارة والمهام الأمنية على المديين القريب والبعيد.
ويظل موقف القاهرة المبدئى جدارًا صًلبًا إزاء مراوغات المحتلّين والمُختلّين، والانتهازيين أيضًا مِمَّن يُؤسِّسون تصوّرات تفوق أحجامهم للإقليم، على الخروج من التزاماتهم تجاه القضية، أو إخراجها من طاولة التسوية أصلاً.
منذ أيام تعالت أصوات النقد لمحاورة تليفزيونية مع قائد المُعارضة الإسرائيلية على إحدى الشاشات العربية، وتناسى المُنتقدون شاشة أخرى تستضيف الصهاينة منذ ثلاثة عقود، وفتحت أبوابها لأحد أرفع مسؤوليهم فى زيارة صداقة مُعلَنة.
تُؤخَذ المواقف بالهوى والانتماءات الأيديولوجية؛ لا على قاعدة واضحة وواحدة ومُتجرّدة. والتنافس انتقل من مجال الاشتباك بين المحاور، إلى كل محور على حِدة.
صار التضارب داخل الدائرة لا على مُحيطها أو تقاطعاتها مع الدوائر الأخرى، والوظيفية تتّخذ صورًا وألوانًا شتّى، أوضحها تل أبيب قطعًا، ولا يُمكن استثناء حماس نفسها منها بما فعلته فى الطوفان وأصرّت عليه طوال الشهور الماضية.
عندما طرح السادات مبادرته للتسوية قبل أكثر من أربعة عقود انتُقِد وخُوِّن، وقُوطِعَت مصر من ذوى الحناجر الصاخبة. بعد سنوات قليلة طُرحت فكرة شبيهة فى قمّة فاس، وجُدِّدت لاحقا بالمبادرة العربية فى بيروت 2002.
أما اليوم فلم تعُد الأرض مُقابل السلام، بل السلام مُقابل السلام، وتُقايض إسرائيل جارها الجولانى بالاعتراف بنظامه والتعايش معه بدلاً عن الجولان، وتقايض آخرين بالصفقات والتجارة، ويُستَشَفّ الترحيب من جهة البعض؛ ولو كان مكتوما حتى اللحظة، لكن المُقدِّمات تُبشِّر بمآلات لن تكون مُختلفة كثيرةً عمَّا يُدار اليوم مع دمشق وبيروت.
أجهزت حماس على قضيتها خدمةً لآخرين، أو سعيًا لتوريط آخرين. والمُحصّلة أنها أرهقت البلاد والعباد، وستخرج من المشهد أسوأ مِمَّا دخلته قبل أربعة عقود، وبعد كل ما حمّلته لفلسطين من أعباء بالسياسة والسلاح على السواء.
أضرّت الحُلفاءَ من دون قصدٍ ربما، وحفّزت المُناوئين، وسيكون عليها أن تُشرف على حقبة لا صوتَ لها فيها، ولا فرصة للتنفس ما بين النهر والبحر، أو من أى ملجأ بديل. الهُدنة فسحة للغزيين أن يلتقطوا الأنفاس؛ لكنها للأسف رصاصة الرحمة الأخيرة على تيّار كان غبيًّا لدرجة الانتحار المجّانى، وانتهازيًّا لدرجة أن يصطحب معه الأبرياء والأصدقاء المُخلصين إلى قارعة المحرقة.

Trending Plus