قبل طرحها.. ننشر فصل من رواية "زهرة النار" أحدث إبداعات محمد سلماوى

يصدر خلال الأيام القليلة المقبلة أحدث عمل إبداعي للأديب الكبير محمد سلماوى وهو رواية "زهرة النار" التى تصدر عن الدار المصرية اللبنانية فى حوالى مائتى صفحة من القطع المتوسط.
وتدور الرواية حول قصة حب عاصفة بين سيدة مجتمع ناضجة وشاب فى مقتبل العمر، وفى الوقت الذى تفرض الحياة السياسية قيودها على المجتمع يفرض المجتمع قيوده على علاقة العاشقين. "زهرة النار" هى قصة الصراع بين القيود البالية على المستويين السياسى والعاطفى ومحاولات الانطلاق والتقدم.
زهرة النار
وفيما يلى مقتطف من الرواية تنفرد بنشره "اليوم السابع" قبل طرح الرواية فى الأسواق. ..
كان اليوم هو يوم المحاضرة الشهرية في مكتب المحامي الشاب
مدحت الناجي. وصل خالد في الموعد فوجد نجوى في انتظاره
على باب العمارة. قالت: حجزت لنا مكانين في الصف الأول.
قَبَّلَها وصعدا معا إلى المكتب. كان مدحت الصديق المقرب لخالد منذ أيام المدرسة،وفي الجامعة أصبح رئيسا لاتحاد الطلبة. كان يشرف على النشاط الثقافي وينظم الرحلات والحفلات الفنية،
وكثيرا ما كان يدعو بعض الشخصيات العامة لإلقاء المحاضرات
على الطلبة. لكن المحاضرات كانت تتحول في بعض الأحيان إلى
لقاءات سياسية تثير قلق إدارة الكلية بما تجلبه عليها من مشاكل مع الأمن. بعد عدة مواجهات بسبب ما كان يوجه خلال هذه اللقاءات من انتقادات للحكومة امتنعت جهات الأمن بالكلية عن منح اتحاد الطلبة التصريحات اللازمة لعقد الندوات، وقبل امتحانات نهاية العام الثاني بالكلية تم إلقاء القبض على مدحت ولم يفرج عنه إلا بعد أن كانت الامتحانات قد انتهت، وقد اضطره هذا لإعادة السنة.
في العام التالي ألغيت الانتخابات في جميع الجامعات ولم يعد هناك اتحاد للطلبة بأي جامعة من الجامعات. وقد عاد مدحت يعقد الندوات بعد تخرجه في الجامعة وعمله بالمحاماة، خاصة وقد تمكن مع مجموعة من زملائه المحامين من استئجار مكتب بوسط البلد فكان يقيم فيه بعد انتهاء مواعيد العمل لقاء فكريا مرة كل شهر يلقي فيه أحد المفكرين محاضرة في موضوع تخصصه.
أما محاضرة اليوم فكانت للقطب اليساري المعروف سليمان
رفعت الذي كان خالد يتابع مقالاته الصحفية. كان موضوع المحاضرة هو العدالة الاجتماعية. قدم المحاضر عرضا نقديا لنظرية الفيلسوف الليبرالي جون رولز التي تركزت حول فكرة أن العدالة الاجتماعية نظرية فلسفية وليست سياسية.
كان خالد يتابع حديث المحاضر باهتمام حين وضعت نجوى يدها
فوق يده التي أراحها على ساقه. احتضن يدها الصغيرة بيده، فهمست في أذنه: يدك باردة. سحب يده بسرعة وهمس: آسف. أعادت يدها مرة أخرى بين أحضان يده: البرودة في أحضانك خير من الدفء بعيدا عنك. أوضح المحاضر كيف يربط رولز بين اللا مساواة وغياب العدل، وقال إن الحريات الأساسية عنده هي حرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية التجمع، وحرية العمل الجماعي. أعقب المحاضرة بعض الأسئلة من الحضور. أدار مدحت النقاش لكن خالد لم يشارك فيه. بعد انتهاء اللقاء خرج خالد ونجوى مع مدحت واثنين من أصدقائهم منذ أيام الجامعة، هما علاء وليلى. كان ضوء النهار قد بدأ يتوارى ساحبا معه أمطار
اليومين الماضيين. توجهوا جميعا إلى حي الحسين حيث جلسوا
في مطعم فطائر يطل على ساحة الحسين اقترحه عليهم مدحت.
سجل النادل طلباتهم، وما إن جاء بالفطائر ووزعها على أطباقهم
حتى طرح عليهم مدحت موضوعا كان يشغله، وهو تأسيس
حزب جديد. قالت نجوى: احذروا جميعا، الفطير ساخن جدا.
قبل أن تكمل كلامها كانت ليلى تصرخ وتبصق بسرعة بقطعة من
الفطير الساخن وضعتها في فمها دون أن تنتبه. ناولها علاء كوب
الماء الذي أمامه فشربت منه وقد دمعت عيناها. قال مدحت:
هذا المطعم من أقدم مطاعم حي الحسين، ويقال أن فطائره هي
الأفضل في القاهرة. رد علاء: اختيارك هذا المطعم كان عبقريا
يا مدحت، لكن فكرة إنشاء حزب جديد هذه في رأيي اقتراح
فاشل. وقال خالد: الحقيقة إن الوضع الحالي في البلد لا يشجع
يا مدحت على خوض مثل هذه التجربة. وعاد علاء يقول: سيقبضون عليك أنت وأصحابك، وربما قبضوا على صاحب هذا المطعم لأنك طرحت علينا فيه هذه الفكرة التي ستؤدي بنا إلى ستين داهية. رددت ليلى وراءه: هي فكرة انتحارية بجميع المقاييس.
سلماوي
استمع مدحت إليهم ثم قال: كلامكم كله سليم لو كنا نتحدث عن
حزب سياسي، لكنكم لم تصبروا علي َّ حتى أكمل فكرتي، إن ما أنوي إقامته هو حزب اجتماعي لا دخل له بالسياسة، أتحدث عن حزب للخضر، العالم كله به أحزاب للخضر تهتم بالبيئة السليمة، وبما يسمى Quality of Life أي نوعية الحياة التي يجب علينا أن نوفرها للناس، سيكون هدف الحزب هو الارتقاء بمستوى الحياة وتحسين الخدمات العامة، إن الناس لا تريد أكثر من ذلك، هذا الحزب لن يخوض بشكل مباشر في الأزمة الاقتصادية، أو في غياب الحريات، أو... قاطعه خالد: أتصور أن الغرض من إقامة حزب جديد يجب أن يكون تحقيق الآمال التي نتطلع إليها، وآمالنا جميعا تتعدى الاهتمام بالبيئة أو تحسين نوعية الحياة، نحن نريد على أقل تقدير تحقيق العدالة الاجتماعية. فرد مدحت: هناك طرق كثيرة لتحقيق العدالة الاجتماعية، ألم نستمع اليوم لنظرية رولز الذي لا يعتبر العدالة الاجتماعية نظرية سياسية، إن العدالة الاجتماعية هي حصول المواطنين على ما يستحقونه من المجتمع، وأول ما يستحقونه هو الحياة الكريمة. قال خالد: وهل تكتمل الحياة الكريمة بدون وجود عدالة اجتماعية؟ قال مدحت: على فكرة، العدالة الاجتماعية هي القاعدة الفكرية لجميع أحزاب الخضر في العالم، وأنا معك في أن تحقيق العدالة الاجتماعية قد يكون عملية سياسية في نهاية المطاف، لكننا سنلجأ في حزبنا للإجراءات الاجتماعية. قال خالد: عند السلطة إقامة أي حزب هو عمل سياسي، سواء كان حزبا للخضر أو للعفاريت الزرق. قال علاء: أنا مع إقامة حزب للعفاريت الزرق يدافع عن مصالحهم التي اغتصبتها السلطة. وضعت ليلى سبابتها على شفتيها وقالت لعلاء: لا تتحدث في السياسة. قال: أستغفر الله من السياسة والحديث في السياسة، أنا لا أتحدث في السياسة ولا أوافق على تأسيس هذا الحزب، إن هدفي الوحيد في الحياة هو تأسيس شقتنا أنا وليلى حتى نستطيع الزواج قبل أن نحال إلى المعاش، أما تأسيس حزب خضر أو حمر أو أي لون آخر فسيذهب بنا جميعا وراء الشمس. ردت ليلى: أنا أيضا لست مع هذا الحزب أيا كان لونه. وأكمل علاء: وحين يسألونني عن المتهم مدحت الناجي سأقول: لا أعرفه يا باشا ولم أسمع به. رد عليه خالد ضاحكا: طول عمرك نذل. ورفع مدحت يديه إلى السماء وهو يقول: ماذا أفعل يا ربي وقد ابتليتني بشلة من الأصدقاء الجبناء؟!
جاء النادل يرفع الأطباق الفارغة فسكتوا جميعا. قدم لهم
الحساب فأخذ منه علاء الإيصال ووضعه أمام مدحت قائلا: لقد
نكدت علينا بموضوع الحزب هذا، لذلك أقترح أن تقوم أنت بدفع
الحساب عقابا لك، وعملا بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية
يمكن أن نطرح الموضوع للتصويت. سأله مدحت: تقصد موضوع
الحزب أو الحساب؟ فرد بسرعة: الحساب طبعا، الحساب، أنت
الوحيد فينا الذي فتحت مكتبا خاصا وأصبح مكسبك بالملايين،
فلن يضيرك أن تدفع بعض القروش لأصدقاء الطفولة الغلابة قبل أن ندخل جميعا السجن بسببك، فلنبدأ التصويت. قال مدحت وسط ضحكات الجميع: التصويت لن ينتصر على ديكتاتورية الأغلبية، سأدفع الحساب.
حين خرجوا من المطعم كانت المدينة قد أضاءت مصابيحها،
وعلى امتداد شارع الأزهر العتيق التمعت واجهات المحلات بألوانها المتنوعة. أخذ خالد يد نجوى في يده بعد أن ودعا أصدقاءهما وخرجا من ميدان الحسين إلى شارع الأزهر في اتجاه وسط البلد. قال لها: سأوصلك للمنزل، وهم ّ بإيقاف تاكسي، فقالت بسرعة: لا، إن كنت ستوصلني فليكن سيرا على الأقدام. قال: حتى الدقي؟! قالت: نعم، لكي أقضي معك أطول فترة ممكنة. تبادلا الابتسام وواصلا سيرهما.
اخترقا المشاة على الرصيف إلى أن اعترضتهما عربة بطاطا وضعها البائع بعرض الرصيف وهو ينادي: سخنة يا بطاطا! حلوة معسلة! سألها خالد مداعبا: أآتي لك ببطاطا؟ حلوة معسلة؟ ضحكت:لا أستطيع بعد كل هذا الفطير.
كانت نجوى زميلته في مدرسة الأورمان التي جمعت بينهما وبقية
الشلة، ورغم أنهم لم يدخلوا جميعا نفس الكلية بعد تخرجهم فقد ظلت صداقتهم قائمة. فبينما دخل خالد كلية الهندسة دخلت نجوى كلية الآداب، ودخل كل من علاء وليلى كلية التجارة. أما مدحت فدخل كلية الحقوق بناء على رغبة والده عبد المجيد الناجي الذي كان خاله سكرتيرا في مكتب أحد الوزراء في عهد ما قبل الثورة، وكان يعتقد أن من يدخل مدرسة الحقانية يصبح وزيرا. ومن حسن الحظ أن كلياتهم جميعا كانت في جامعة القاهرة فكانت كافيتريا كلية الآداب مكان لقائهم اليومي. ومنذ سنة أولى جامعة خطب علاء ليلى واتفقا على الزواج. وفي السنة النهائية بالجامعة نشأت علاقة عاطفية
بين خالد ونجوى. أما مدحت فلم يكن يشغله إلا الأنشطة التي كان يشرف عليها بوصفه رئيسا لاتحاد الطلبة.
توقفا في سيرهما عند أحد محال الصاغة وأخذت نجوى
تتفرج على معروضاته وهي تحلم باليوم الذي تذهب مع خالد
لمثل هذا المحل لتختار شبكتها. قالت: أخبرتني ليلى أن علاء
وعدها بأن يكون زواجهما في شهر يوليو القادم. قال: خبر جميل،
عندها سيكون أتم عاما في عمله بالبنك وسيستحق علاوة لا بأس
بها. قالت: عقبى لنا. قال: العمل أم الزواج؟ قالت: الاثنان فهما
مرتبطان. قال: ربنا يرزق.
مضت نحو ساعة وهما يواصلان السير من شارع إلى شارع. اخترقا ميدان العتبة ومنه إلى ميدان الأوبرا، ثم واصلا سيرهما عبر شارع عبد الخالق ثروت إلى شارع طلعت حرب. قالت: تعبت من المشي. قال: لنجلس في أي مقهى، سآتي لك ِ بمشروب ساخن.
قالت: ثلجت من البرد لكني لا أريد شرب شيء. قال: إذن تعالي
ندخل السينما. لم يختارا سينما بعينها. دخلا أول دار قابلتهما في
الشارع دون أن يعرفا الفيلم الذي تعرضه. كانت إمكانيات لقاءاتهما الحميمية تكاد تكون منعدمة. وكانت السينما أقصى خلوة متاحة لهما. حين دخلا كان الفيلم قد بدأ. لكنهما لم يجيئا لمشاهدته. ما إن جلسا في مكانيهما حتى أحاطها بذراعه فبدأت تشعر بالدفء، وبعد لحظات كانا يذوبان في قبلة ممتدة نقلتهما من برودة الجو إلى حرارة نشوتهما المكبوتة.
محمد سلماوى، الكاتب الكبير محمد سلماوى، زهرة النار، المصرية اللبنانية ، اخبار الثقافة

Trending Plus