مارييت في مصر.. ما قدمه المنقب الفرنسى فى حفظ آثار مصر

من الشخصيات ذات التأثير الكبير في حفظ الآثار المصرية مارييت باشا، فما هي قصته؟ .. يقول يقول كتاب "فراعنة من؟: علم الآثار والمتاحف والهوية القومية المصرية من حملة نابليون حتى الحرب العالمية الأولى" لـ دونالد مالكولم ريد، ترجمة رءوف عباس تحت عنوان "إعادة تأسيس مصلحة الآثار (الأنتكخانة)":
ولد مارييت فى بولون- سير- مير عام 1821م، بعد مولد على مبارك بعامين، وعندما بلغ الحادية عشر من عمره مات شامبليون.
وقام جاك - جوزيف شامبليون فيجى بنشر العمل المتميز وغير المكتمل الذى تركه أخوه الأصغر دون أن يحقق تقدمًا فى دراسة فقه اللغة المصرية القديمة، ومات كل من نستورلوت وروسيلِّينى فى أعقاب وفاة شامبليون.
وقام ليون دوبوا — خليفة شامبليون فى اللوفر — بقطع الصور الملونة للآلهة من إحدى البرديات وقام بتأطيرها، مهملًا النص باعتباره نفاية لا لزوم لها، ولكن إيمانويل دى روجيه — الذى أصبح أمينًا للقسم المصرى باللوفر عام 1849م — ومارييت، استطاعا عند منتصف القرن أن يعيدا الفرنسيين إلى مكانهم فى علم "المصريات".
حصل مارييت على شهادة الثانوية (البكالوريا) الأدبية، وعمل بالتدريس، والصحافة، ولكن وراثته لأوراق قريبه نستور لوت حولت اتجاهه نحو "المصريات"، فصرف سبع سنوات فى كفاح متصل لدراسة القبطية والهيروغليفية بشكل إقليمى منعزل حتى نال وظيفة متواضعة باللوفر عام 1849م، ولما كان متحف اللوفر ينظر بعين الحسد إلى مجموعة المخطوطات القبطية التى جلبها — فى الثلاثينيات — روبرت كيروزون وهنرى تاتام إلى المتحف البريطاني، فقد أوفد مارييت إلى القاهرة عام 1850م للبحث عن المخطوطات القبطية القديمة، ولكن البطريرك القبطى كان ما زال يتذكر ما فعله كيروزون وتاتام، فرفض التعاون مع مارييت.
فقامر مارييت بما كان معه من مخصصات مالية، كما قامر بمستقبله، بحثًا عن السرابيوم الذى وصفه الرحالة اليونانى استرابو، فراح يقتفى أثر تماثيل أبى الهول التى عثر عليها فى سقارة، والتى شاهدها فى الحدائق الأوروبية بالإسكندرية والقاهرة، وقام بالتنقيب فى طريق أبى الهول الذى يقود إلى مقبرة عجول أبيس، وبلغ حماس الغرفة الفرنسية بباريس حد الموافقة على المخصصات اللازمة لنقل ما تم العثور عليه من آثار إلى اللوفر قبل أن يحصلوا على موافقة عباس الأول على تصديرها، وقد ثارت ثائرة عباس، وأرسل الحراس إلى سقارة لوقف عمليات التنقيب التى يقوم بها مارييت، ويرجع ذلك إلى تحريض القنصل العام البريطانى شالز موراي، والمبشر الإنجليكانى البارون دى هربر، وهم جميعًا من جامعى الآثار، فكلف مارييت أحد مساعديه بصناعة لوحات قرابين مقلدة لإقناع عباس بتنفيذ أوامره، واستمر فى التنقيب سرًّا فى الليل، وأخيرًا استطاع أرنو ليموين القنصل الفرنسى العام أن يصل مع الباشا إلى حل وسط، يستطيع مارييت بموجبه أن يرسل إلى اللوفر 515 قطعة أثرية، ويستمر فى التنقيب، وما يتم العثور عليه مستقبلًا يبقى فى مصر. وقبل أن تنفد مخصصاته المالية عاد مارييت إلى بلاده، ولكنه كان قد اكتشف معبد الوادى الخاص بخفرع بالقرب من تمثال أبى الهول بالجيزة.
وكافأ اللوفر مارييت على جهوده بترقيته إلى وظيفة أمين مساعد بالمتحف، وكان رئيسه دى روجيه فى مطلع الأربعينيات من عمره، مما يعنى استحالة وصوله إلى منصب الأمين، كان مارييت يعيش أحلام اليقظة مع مغامراته، وقرر تفضيل دراسة الفن على دراسة فقه اللغة، وفى عام 1857م انتهز الفرصة ليقوم بالتنقيب عن الآثار لحساب سعيد باشا الذى تولَّى الحكم خلفًا لعباس الأول، وذلك حتى يقوم سعيد بإهدائها إلى الأمير نابليون عند زيارته التى يعتزم القيام بها لمصر. وكان سعيد قد أهدى كل ما بقى لدى الدولة من قطع أثرية إلى الأرشيدوق ماكسمليان — ولى عهد النمسا — عام ١٨٥٥م "وهى مودعة الآن بمتحف التاريخ القديم بفيينا".
فقد أقنع ديليسبس، والقنصل الفرنسى العام ريمون ساباتييه سعيدًا بأنه يجب ألا يقل كرمه مع فرنسا عما فعله سلفه مع النمسا، وقام سعيد بتجهيز مارييت بباخرة وفريق من عمال السخرة، مما أسعد مارييت، وجعله يقسم العاملين معه إلى فرق قامت بالحفر فى الجيزة، وسقارة، وأبيدوس، وطيبة، وإلفنتين فى وقت واحد. ووقعت زيارة الأمير نابليون خلال عمليات التنقيب، ولكن سعيد استمر فى متابعة العمل، وأهدى كل ما تم اكتشافه من آثار إلى اللوفر.
وبدعم من الإمبراطور نابليون الثالث، ومساندة من جانب ديليسبس وساباتييه، حث نوبار باشا سعيدًا على تكليف مارييت بإعادة تأسيس مصلحة الآثار المصرية، وتولى كوينج بك — الإلزاسي، سكرتير سعيد ومعلمه السابق — تولَّى أمر التفاصيل. ففى أول يونيو 1858م، أصبح مارييت "مأمور الأنتيكات" براتب سنوى قدره ثمانية عشر ألف فرنك (أى ما يوازى 720 جنيهًا إسترلينيًّا)، وذلك قبل عام من قيام ألكسندر كاننجهام بتأسيس الإدارة الخاصة بالآثار فى الهند. وقد تنوعت الأسماء التى أُطلقت على مصلحة الآثار المصرية فهي: مصلحة الأنتيكات، ومصلحة الأنتكخانة، ومصلحة الآثار، وأنعم الوالى على مارييت برتبة البكوية من الدرجة الثانية، وأعطاه حق الانفراد بإجراء الحفائر الأثرية، وخصص له باخرة نيلية، ومنحه سلطة تسخير كل ما يحتاج إليه من الأيدى العاملة، وعلق ماسبيرو على ذلك ساخرًا:
إن هذا بمثابة استحواذ على مصر بحجة خدمة البحث العلمي.
وقام الفرنسيان بونفرى وجابيه بالعمل كمساعدَين لمارييت، وأعار اللوفر الرسام تيودور ديفريا ليقوم بنسخ النقوش، كما عمل لويجى فاسالى مع مارييت زمنًا طويلًا، وبدأ إميل — الأخ الأصغر لهنريش بروجش — حياته العملية فى مصلحة الآثار المصرية.
وكون مارييت فرقًا للتنقيب فى ستة مواقع مختلفة من الجيزة إلى أسوان، وجاء أول ذكر لهذا النشاط فى مجلة المتاحف Journal d’éntrée فى يونيو 1858 م. وقد اقترح مارييت — فى بداية الأمر — قوة عمل تتكون من 2380 رجلًا، يعمل 200 منهم بالكرنك، وما بين 500 و1000 فى إدفو، و750 فى إسنا، و400 بالجيزة، ولكنه تلقَّى نصيحة بالاقتصاد فى قوة العمل لأن التنقيب عن الآثار يختلف عن حفر القنوات. وفى وقت من الأوقات كان لديه تفويض بتجنيد سبعة آلاف عامل.
ولعل ضحايا السخرة الذين عملوا فى حفائر مارييت ربطوا بين العمل فى الآثار، والعمل الذى كان جاريًا فى شق قناة السويس. فكلاهما كان شقاءً وبؤسًا مصدره الأوروبيون، وسعيد، وإسماعيل، دون أن يفيد العمال المسخرين شيئًا. وتولى العمال تجميع المسخرين للعمل بين القرى، وتقاضوا رشاوى من الفلاحين الميسورين لإعفائهم من السخرة التى كان الفقراء وحدهم ضحاياها.
وكما فعل بول إميل بوتا وأوستن هنرى لايارد فى بلاد الرافدين قبل ذلك بسنوات، قام مارييت باستخدام مجموعات عمل كبيرة للتنقيب عن القطع الفنية والنقوش، ولم يكن قد ظهر بعدُ الاهتمام بالمجسات الأرضية، وتجميع الملاحظات عن ميدان العمل، وإعداد التقارير العلمية التفصيلية، ولم يكن عمل هنريش شليمان فى اصطياد كنوز طروادة وميسيناى فى السبعينيات، أفضل من ذلك. وفى عام 1864م استخدم مارييت ألف عامل لتنظيف حوائط المعبد حتى تتاح لدى روجيه فرصة إبراز النقوش أمام زائر مرتقب.
وعبَّر فليندر بترى عن شكواه من أن مارييت ترك مساعديه الأوروبيين ورؤساء العمال من المصريين يحفرون لحسابهم لمدة شهور فى كل مكان ما عدا الجيزة وسقارة.
وتسربت الآثار التى عثر عليها مارييت إلى السوق لأنه كان لا يدفع مكافأة لمن يعثر عليها، وكان رؤساء العمال يجذبون انتباه مارييت إلى المواقع غير المهمة بوضع قطع فيها مشتراة من السوق.
وفى إيطاليا كان جيسيب فيوريلِّى وبيتروروسا يقومان فى الستينيات بحفائر علمية فى بومبى وروما، كما قام ألكسندر كونز النمساوى وإرنست كرونيوس الألمانى — فى السبعينيات — بحفائر فى اليونان طوروا فيها أسلوب التنقيب، مما جعل مارييت على درجة كبيرة من التخلف.
وعندما مارس مارييت سلطته، توقفت الحفائر التى كان يقوم بها فى مصر أوروبيون آخرون، وتم حظر تصدير الآثار دون ترخيص. وصدرت أوامر دورية إلى موظفى مصلحة الآثار بتطبيق الحظر على التنقيب عن الآثار، ولكن المصريين استمروا فى استخراج "السباخ" وبيع الآثار، وحرق حجارة المعابد لإنتاج الجير.
ورفض مارييت طلبًا تقدم به فلاح عام 1880م للترخيص له باستخدام حجارة الأهرام فى بناء بيت.
وفى عام 1861م، بلغت ديون سعيد ثمانية ملايين جنيه استرلينى مما اضطره إلى الاختباء فى يخته هربًا من الدائنين، وكان قد رهن موارد الدولة مقدمًا، وأحال الكثير من الموظفين إلى الاستيداع أو فصلهم من وظائفهم، وأنقص عدد الجيش إلى2500 جندي، وباع المعدات العسكرية، فحث مارييت باريس على التغلب على لندن بتقديم قرض جديد لسعيد قائلًا: "إن من يقدم القرض لسعيد سوف يلف الحبل حول رقبته (وكانت تلك كلمات الوالى نفسه)، وبعبارة أخرى، سوف يصبح سيد مصر." وانتهز نابليون الثالث الفرصة للضغط على مارييت حتى يحصل من سعيد على مساعدة للبحث عن مصادر لسيرة يوليوس قيصر — التى كان يكتبها — وعلى مخطوطات قبطية من الأديرة المصرية، وتجاهل مارييت الملاحظة التى أبداها نابليون الثالث عندما قال له إن الآثار التى يكدسها فى بولاق سوف تكون فى وضعٍ أحسن لو حصل عليها اللوفر.
ورغم أن الممولين البريطانيين والألمان — وليس الفرنسيين — قدموا القرض لسعيد، عبَّر الأخير عن ارتياحه بمنح مارييت البكوية من الدرجة الأولى، ووعده بدعم مطبوعاته، وتقديم المعونات للمتحف، ومنحه معاشًا، وجعله مفوضًا عامًّا لدى «معرض لندن الدولي» عام ١٨٦٢م.
على الرغم من نجاح مارييت فى الحد من تدفق الآثار المصرية على أوروبا، لم يستطع أن يحول دون خسارة مسلتين أخريين. ففى العشرينيات، أهدى محمد على لكلٍّ من بريطانيا وفرنسا واحدة من المسلتين القائمتين بالإسكندرية، واستبدل الفرنسيون بالمسلة المهداة لهم أخرى أفضل حالًا انتُزعت من معبد الأقصر حصلوا عليها فى 1831-1832م، ونصبت بميدان الكونكورد. وحذر ويلكنسون بلاده من الإهانة التى قد تلحق بها إذا حصل الفرنسيون على مسلَّتهم قبلهم، ولكن صديقه روبرت هاى رأى أن المهانة تتحقق بقبول بريطانيا للمسلة المعروضة عليها، فى حين أن فرنسا حصلت على مسلة أفضل. وعارض ويلكسنون — فيما بعد — فى نقل المسلة إلى لندن على أساس أن الغرض الأصلى لها كان مجهولًا — وسخر ثاكراى من المشروع ككل قائلًا:
ذهبنا لمشاهدة المسلة الشهيرة التى أهداها محمد على للحكومة البريطانية التى لم تبدِ قبولها للهدية صراحة … وإذا كانت حكومتنا تتعامل مع الموضوع ببرود، فإن تحمسنا له يعدُّ من قبيل عدم الولاء لحكومتنا. أتمنى أن تقدم حكومتنا للمصريين عمود الطرف الأغرِّ حتى يرقد هذان العملاقان القبيحان فى التراب جنبًا إلى جنب."
ولم يتم نقل المسلة إلا عام 1877م عندما قام الطبيب البريطانى إرازمس ولسون بتمويل عملية النقل، وتم نصب المسلة على كورنيش نهر التيمز فى السنة التالية.
وأدى ذلك إلى حفز الأمريكان على الحصول — بدورهم — على مسلة، فأهداهم إسماعيل المسلة الباقية بالإسكندرية تقديرًا لما أداه الضباط الأمريكان السابقون (الذين خدموا فى الحرب الأهلية) من خدمات خلال عملهم فى جيشه. وأثار ذلك ثائرة مارييت الذى احتج على هذا التفريط الذى لم يترك لمصر سوى خمس مسلات، ورغم أن بمصر الآن "متحفين، أحدهما متحف بولاق، والآخر هو جميع أراضى مصر … زد على ذلك أن هناك مبدأً عالميًّا معمول به فى جميع المتاحف، هو أن ما تحصل عليه المتاحف لا تستطيع أبدًا التنازل عنه، وأن على مصر أن تطالب اللوفر بتمثال فينوس دى ميلو، وتطالب المتحف البريطانى بإعادة حجر رشيد إليها، وتطالب متحف نيويورك بأحد آثار مجموعة أبوت؛ لأن شيئًا فى الدنيا لا يعادل هذه الهدية من حيث القيمة. فلماذا تعامل مصر معاملة مختلفة؟ … لقد انتهى الزمن الذى استطاع فيه اللورد إيلجن أن يحمل معه لوحات الأجرام السماوية، فمصر لديها أقدم أرشيفات مماثلة للعيان فى التاريخ الإنساني، وهى وثائق تشهد بمجدها القديم وهى تعتزم الاحتفاظ بها".
وقد صدق مجلس النظار (الوزراء) على المنحة التى قدمها إسماعيل لأمريكا بعد تردد، رغم أن الخديو فقد عرشه قبل أن تقوم الحكومة الأمريكية بنقل المسلة فى أواخر 1879م. وقد تم نصب المسلة فى سنترال بارك بنيويورك فى يناير 1881م، وهو الشهر الذى فارق فيه مارييت الحياة. وقد نجح مارييت — على الأقل — فى استصدار قرار من مجلس النظار نص على أنه "من الآن فصاعدًا لا يتم إهداء أثر مصرى لأى دولة أو أى مدينة خارج الديار المصرية."

Trending Plus