الجفاف يطرق الأبواب.. من أوروبا إلى أفريقيا معركة كونية مع العطش

من شمال أوروبا إلى السافانا الأفريقية، ومن أنهار آسيا الجافة إلى أراضى أمريكا الجنوبية المتشققة، يضرب الجفاف الكرة الأرضية، موجة بعد موجة، كأنه إنذار كونى بأن التغير المناخى لم يعد مجرد تحذير علمى افتراضى، بل أصبح واقعا يفرض نفسه على حياة البشر، موارد المياه تتناقص، المواسم الزراعية تضرب فى مقتل، وتتصاعد أزمة العطش لتصبح معركة وجود للبشرية بأكملها.
تشهد دول كثيرة حول العالم، أزمات جفاف قاسية تعيد رسم المشهد البيئى والاقتصادي والاجتماعى، فتلك الأزمات لم تعد مجرد ظاهرة موسمية أو تغير فى أنماط الأمطار، بل أصبحت تعبيرًا عن خلل مناخى واسع له تداعيات خطيرة على الحياة اليومية فى كل القارات.
فى أوروبا، تتفاقم أزمة المياه على نطاق غير مسبوق، فمستويات الأنهار الحيوية مثل الدانوب فى المجر والراين أهم ممر تجارى وثقافى فى القارة العجوز، والفيستولا فى بولونيا، انخفضت إلى معدلات قياسية، وأصبحت الملاحة محدودة بسبب الجفاف الذى أصاب الممرات المائية، ما أدى إلى ارتفاع كبير فى تكاليف النقل، وتأثيرات مباشرة على التجارة وسلاسل الإمداد، كما سجل هذا العام أحد أكثر المواسم جفافًا، مترافقًا مع درجات حرارة شديدة تنذر بصيف أكثر حدة.
المملكة المتحدة، اضطرت إلى فرض حظر على استخدام خراطيم المياه فى مقاطعة يوركشير لأول مرة منذ عقود، بعد أن عانت من شح كبير فى الأمطار، أما دول البلقان فشهدت درجات حرارة تجاوزت 40 درجة مئوية، مما أدى إلى تقليص الاستهلاك، وتضرر المحاصيل، وتراجع إنتاج الطاقة الكهرومائية.
إيطاليا وإسبانيا، رغم تساقط أمطار مؤقتة، لا تزالان تعانيان من انخفاض مستويات المياه في البحيرات والخزانات، ما يهدد مواسم الزراعة والري. اليونان وتركيا وسوريا ودول فى شرق أوروبا، أصبحت جميعها ضمن المناطق المصنفة تحت الإنذار من الجفاف طويل الأمد.
فى إيران، تراجع مخزون خزانات المياه في العاصمة طهران إلى مستويات حرجة، ووصلت بعض المناطق المحيطة ببحيرة أوروميه إلى حالة تصحر كامل بعد انخفاض الأمطار وارتفاع درجات التبخر.
وفى أفريقيا، تسببت موجات الجفاف في شرق وجنوب القارة فى أزمة إنسانية لنحو 90 مليون شخص، مع فشل متكرر فى محاصيل أساسية، وموجات نزوح إلى المدن الكبرى، و في أمريكا اللاتينية، تجف بحيرة تيتيكاكا على الحدود بين بيرو وبوليفيا بشكل مقلق، ويتراجع إنتاج الغذاء فى أوروغواى والأرجنتين بسبب طقس غير مستقر، حتى كندا، التى كانت آمنة مائيًا، شهدت جفافًا تسبب فى حرائق ممتدة منذ الشتاء فيما يسمى بـ"حرائق الزومبى".
مصر، فى قلب هذه الخريطة العالمية، تواجه هى الأخرى تحديات متصاعدة، فالجفاف فى دول منابع النيل، والضغوط المناخية على حوض النهر، تزيد من توتر الوضع المائى، ومع ازدياد الاحتياج إلى المياه في الزراعة والصناعة ومياه الشرب، يصبح الاعتماد على مصدر رئيسى واحد – نهر النيل – عامل ضغط شديد، ورغم كفاءة إدارة المياه، فإن استمرار النمو السكانى وارتفاع درجات الحرارة يدفع إلى البحث عن حلول غير تقليدية مثل تحلية مياه البحر، وإعادة استخدام المياه، وزراعة أصناف أكثر قدرة على مقاومة الجفاف.
الأزمة لا تهدد الغذاء فقط، تراجع المياه يعني أيضًا تدهور الإنتاج الصناعى، وتباطؤ النمو الاقتصادى، وارتفاع فاتورة الطاقة فى الدول التي تعتمد على التوليد الكهرومائى، فالجفاف يضرب بجذوره فى كل ما هو حيوى، من الهجرة الداخلية إلى التوترات السياسية، ومن صحة الإنسان إلى استقرار النظم البيئية.
وما يزيد من الخطر أن الجفاف نفسه أصبح محركا إضافيًا للتغير المناخى، فمع جفاف الغابات والأراضى الرطبة، تفقد الطبيعة قدرتها على امتصاص الكربون، فيما تطلق حرائق الغابات الناتجة عن الجفاف كميات هائلة من الغازات الدفيئة، لتدخل الكرة الأرضية فى حلقة مفرغة من التصعيد المناخى.
ما نعيشه اليوم لم يعد مجرد موجة جفاف عابرة، بل تحول إلى اختبار حقيقى لقدرة المجتمعات والدول على التكيف مع عالم يتغير مناخيًا بسرعة تفوق قدرتنا على الاستجابة، و التحديات المائية التى تضرب أوروبا وآسيا وأمريكا وإفريقيا، تمتد ظلالها إلى دول مثل مصر، التى تواجه تحدياتها الخاصة فى ظل اعتمادها شبه الكامل على نهر النيل.

Trending Plus