الدروس المستفادة من حريق سنترال رمسيس

بعد عامين من الآن يكون سنترال رمسيس قد بلغ من العمر 100 عام بالتمام والكمال، يوم 25 مايو من عام 1927 كان الملك فؤاد يتوسط حشد كبير من المدعوين من كبار شخصيات الدولة من الأمراء والباشوات والإعلاميين والفنانين فى شارع الملكة نازلى (زوجته) والذى أصبح شارع رمسيس عقب ثورة يوليو 52، إيذانا بافتتاح أكبر دار للتليفونات الجديدة أو ما أطلق عليه سنترال رمسيس فيما بعد، وهو أول وأضخم مركز للاتصالات فى الشرق الأوسط وأفريقيا وواحد من أوائل مراكز الاتصالات (السنترالات) فى العالم.
ويقف الملك فؤاد ويمسك بسماعة هاتف فضية اللون مصنوعة خصيصا لهذا اليوم التاريخى فى مدينة ستوكهولم السويدية وتحمل علامة شركة (اريكسون) ومحفور عليها جملة تخليد المناسبة التاريخية: "الجهاز الذى تفضل به جلالة فؤاد الأول ملك مصر وافتتح به سنترال تليفون المدينة بالقاهرة"، ويجرى الملك فؤاد أول مكالمة هاتفية إيذانا ببدء مرحلة زمنية مشهودة وتاريخية جديدة من الاتصالات فى مصر، فالسنترال كان يرمز لسنوات من التقدم والتطور المبكر فى تاريخ مصر الاجتماعى والاقتصادى، بالتزامن مع إنشاء الاقتصادى المعروف طلعت حرب باشا شركة مصر للغزل والنسيج فى العام ذاته فى مدينة المحلة الكبرى وقبلها بنك مصر عام 1920 وبعدها بسنوات قليلة تأسيس شركة مصر للتمثيل والسينما -استوديو مصر- عام 35.
منذ تلك اللحظة أى منذ حوالى 98 عاما يصبح سنترال رمسيس هو "أبو السنترالات" و"العراب الأكبر" لها فى مصر والقلب النابض للشبكة القومية للاتصالات والجسر الذى يربط بين الماضى والحاضر والمستقبل.
المبنى التاريخى الذى تعرض بالأمس لأضخم حريق منذ إنشائه يحتوى على أكبر غرف الربط البينى، وتستخدمه كبرى شركات الاتصالات العاملة فى السوق المصرى مثل فودافون وأورانج فى توجيه المكالمات وربط الإنترنت محلياً ودولياً، ويعالج أكثر من 40% من حركة الاتصالات المحلية والدولية فى مصر عبر خطوط أرضية وألياف ضوئية.
وأهميته الكبرى والاستراتيجية أيضا تعود إلى أنه هو المحور الرئيسى لشبكة الهاتف الثابت فى مصر، حيث يربط بين شبكة القاهرة الكبرى وشبكات المحافظات الأخرى. ويمر عبره عدد من كابلات الألياف الضوئية الإقليمية والدولية، التى تشكل العمود الفقرى لخدمة الإنترنت فى مصر، مما يجعله موقعًا بالغ الأهمية من الناحية الاستراتيجية، خاصة فى أوقات الأزمات أو حالات الضغط على الشبكة. وكان فى السابق مقرا لنقطة التبادل الإقليمى للإنترنت، والتى كانت تُعد الأكبر فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
إذن... فسنترال رمسيس ليس مجرد مبنى تاريخى ضخم يقع فى قلب العاصمة وفى أهم وأكبر شوارعها وإنما يعتبر مركزا رقميا وحيويا تتدفق من خلاله آلاف خطوط البيانات والمكالمات بصورة يومية وهو يمثل العمود الفقرى للبنية التحتية الوطنية للاتصالات، مما يجعله محورا غاية فى الأهمية من محاور خطة الدولة فى التحول الرقمى
الحريق المفاجئ بالسنترال والذى تحقق فيه حاليا النيابة العامة لمعرفة أسبابه تسبب فى حالة شبه شلل لعدد كبير من الخدمات، منها توقف جزئى لخدمات الاتصالات والإنترنت فى مصر وخاصة فى القاهرة والجيزة، تأثر خدمات الإنترنت الأرضى فى عدد كبير من المناطق، توقف جزئى فى المكالمات على شبكات اتصالات - فودافون - أورنج - وى بالقاهرة والجيزة، تعذر الاتصال بخدمات الإسعاف والنجدة والطوارئ والرعاية الحرجة، تعطل ماكينات الصراف الآلى للبنوك، تعطل خدمات تطبيق إنستاباى وهو أكبر تطبيق لحظى لتحويل الأموال، تعطل الخطوط الأرضية بمدينة الإنتاج، توقف حالات الدفع الإلكترونى فى كل المتاجر ومراكز التسوق، انقطاع خدمات الدفع الإلكترونى عبر الإنترنت والمعاملات البنكية، عطل فى كل الخدمات المرتبطة بالإنترنت والشبكات المميكنة، تأثرت حركة الطيران ومواعيد إقلاع بعض الرحلات بصورة مؤقتة، تأثرت عملية التداول فى البورصة
حدث ما يشبه الصدمة والجلطة الدماغية وأصيب المبنى التاريخى بالعطب ليزيح الستار عن أخطاء يجب الاعتراف بها والعمل على معالجتها، فالدروس المستفادة كثيرة من هذا الحري.
فقد أصبح هناك ضرورة لترسيخ ثقافة إدارة الأزمة فى كل المؤسسات والهيئات والشركات والمؤسسات الحيوية فى مصر وتحسين وتطوير اشتراطات الأمن والسلامة بناء على قاعدة بيانات ومعلومات دقيقة، وتفعيل آليات الرقابة الحقيقية والتأكد من وجود الخطط البديلة فى حالات الطوارئ والتدريب عليها، وإجراء محاضرات ودورات تثقيفية لكل العاملين بالمؤسسات والهيئات والشركات ذات الأهمية الحيوية والاستراتيجية حول إدارة الأزمات ومواجهه حالات الطوارئ صيفا وشتاء.
علينا أن نستفيد من هذا الحريق بعدم وضع "البيض كله فى سلة واحدة" فلا يمكن الاعتماد ونحن نتحول إلى الاقتصاد الرقمى على مركز أو سنترال واحد بدون وجود مراكز بديلة فى القرية الذكية أو فى العاصمة الذكية أو حتى خارج القاهرة، فالتحول الرقمى يستدعى توزيعا جغرافيا ذكيا وخطة إدارة أزمات.
السيطرة على الحريق لا يعنى انتهاء الأزمة بل بداية للتفكير فى الحلول الكبرى، فسنترال رمسيس يجب التفكير فيه كمبنى ومركز استراتيجى ومحورى للاتصالات فى مصر وخروجه مؤقتا من الخدمة إلى حين تأهيله وفقا للمعايير العالمية كأحد المراكز الخدمية التبادلية وليس كنقطة مركزية ومحورية.
الحكومة عليها أن تشكل فرق إدارة أزمات فى كل هيئاتها ومؤسساتها ووزارتها تدرس وتضع الخطط المناسبة فى حالة - لا قدر الله - وقوع حرائق أو غيرها.
ما حدث فى سنترال رمسيس ليس مجرد حريق فى مبنى لكنه جرس إنذار للاستفادة من الدرس.

Trending Plus