الهيمنة "الذكية".. أمريكا والرهان على "الوكيل الإقليمى

في الوقت الذي تسعى فيه قوى دولية كبرى إلى بناء نظام عالمي تعددي، يراعي مصالح الجميع، ويعكس التغير في موازين القوى، تصر الولايات المتحدة على التشبث بمنطق الهيمنة الأحادية، متجاوزة بذلك حتى حلفاءها التقليديين في أوروبا الغربية، الذين باتوا يدركون أن الشراكة مع واشنطن لم تعد كما كانت، خاصة بعد حزمة السياسات التي تبنتها الإدارة الحاكمة مؤخرا، وعلى رأسها العودة لزمن التعريفات الجمركية، بالإضافة إلى الموقف غير المسبوق، الذي اتسم بقدر من الانحياز لروسيا على حساب أوكرانيا ولكن التحول اللافت في الاستراتيجية الأمريكية لا يقتصر على خطابها العالمي، بل يتجلى بوضوح في نهجها الإقليمي، حيث باتت تعتمد على نموذج "الوكيل الإقليمي" لتنفيذ رؤاها، بدلا من بناء شبكات تحالفات متماسكة أو تقاسم النفوذ بشكل عادل، وهي الشبكات التي يراها الرئيس دونالد ترامب مكلفة، وكبدت الخزانة الأمريكية ملايين الدولارات دون جدوى، لعقود طويلة من الزمن.
الرؤية الأمريكية في تعزيز الحالة الأحادية، ذات الشرعية الذاتية، والتي يمكننا تسميتها بـ"الهيمنة الذكية"، تجلت في العديد من المواقف، ربما سبقت ظهور الرئيس ترامب على الساحة السياسية، وإن كانت على استحياء في بداية الأمر، خاصة منذ صعود باراك أوباما في 2009 إلى البيت الأبيض، واعتماده تركيا في بداية حقبته، كحليف رئيسي لواشنطن على حساب القوى الإقليمية الأخرى، ثم اختتم ولايته الثانية بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، متجاهلا مخاوف جيرانها الخليجيين، في محاولة ليس فقط لاحتواء خطر طهران، وإنما في إطار صفقة من شأنها توسيع النفوذ الفارسي في محيطه الجغرافي، بينما تبقى إسرائيل الحليف المدلل على اعتبار أن دعمها المطلق يبقى أحد ركائز الدبلوماسية الأمريكية، رغم الخلافات التي طفت على السطح مع الإدارة، خاصة بعد توقيع الاتفاق المذكور في عام 2015.
والمفارقة الأبرز في الرؤية الأمريكية، كما تبناها أوباما، تتجسد في أن القوى الثلاثة المختارة لقيادة الإقليم أو على الأقل المشاركة في إدارته، كانت خارجة عن الأغلبية العربية التي تحظى بها منطقة الشرق الأوسط، وهو ما يمثل تغييرا لافتا عن السياسات التي تبنتها الإدارات السابقة، منذ السبعينات من القرن الماضي، عندما ارتبطت قيادة واشنطن للعالم، بتوقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، والتي ساهمت بصورة كبيرة في تعزيز نفوذها في المنطقة الأكثر اشتعالا، وبالتالي كان العرب، وعلى رأسهم مصر، بمثابة حلفاء رئيسيين للإدارات المتعاقبة، جنبا إلى جنب مع إسرائيل، والتي كما ذكرنا لا يجوز التخلي عنها، بالإضافة إلى أن الطرفين معا (العرب وإسرائيل) يشكلان محور الصراع في المنطقة.
إلا أن رؤية أوباما على ما يبدو سقطت مبكرا، لأسباب عدة، منها سقوط "الربيع العربي"، من بوابة 30 يونيو بالقاهرة، ومن ورائها العديد من الثورات الأخرى في العديد من الدول العربية ضد الفوضى، من جانب، وانهيار الاتفاق مع إيران، جراء الغضب الإسرائيلي، من جانب آخر، مما سلط الضوء مجددا على طرفي المعادلة الإقليمية، وهما العرب وإسرائيل، باعتبارهما الطرفين الرئيسيين في الصراع الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ عقود، وهو الأمر الذي أدركه الرئيس ترامب في ولايته الأولى، ليعود مجددا إلى المنطقة عبر تعزيز علاقات واشنطن مع القوى العربية الرئيسية، ثم الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني.
ولكن تبقى "الهيمنة الذكية" ليست ببعيدة تماما عن رؤية الرئيس ترامب، حتى في ولايته الأولى، وإن كان التطبيق العملي لها لم يكن في منطقتنا، حيث استخدم نهجا مشابها في أوروبا، عبر الضغط على بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي، مقابل منحها القيادة القارية والنفوذ، على حساب القوى الأخرى المؤمنة بأفكار "أوروبا الموحدة"، خاصة مع صعود بوريس جونسون إلى رأس السلطة في لندن، وما كان يحمله من "جينات ترامبية"، لم تقتصر فقط على الأيديولوجيا، وإنما تمتد إلى طبيعة الخطاب والرؤى تجاه العديد من القضايا، على غرار الهجرة، والاتحاد الأوروبي.
بالنظر إلى الرؤى الأمريكية في الشرق الأوسط، خلال حقبة أوباما، ونظيراتها في أوروبا، خلال ولاية ترامب الأولى، نجد أن ثمة نظرية جديدة يتم صياغتها، تعتمد على تقليص عدد الحلفاء، عبر الاعتماد على عدد محدود، يمكنهم تنفيذ قرارات واشنطن وتوجهاتها في مناطقهم الجغرافية، بينما تبقى الصفة المشتركة، لكل القوى المختارة للقيام بهذا الدور، هي الخروج عن حالة الإجماع، عبر اختيار قوى غير عربية في إقليم تطغى عليه الهوية العربية، كما هو الحال في الشرق الأوسط، أو اختيار قوى مارقة على الاتحاد، على غرار بريطانيا في أوروبا.
ورغم ما يبدو من تناقض صارخ بين أوباما وترامب، سواء في الخطاب السياسي أو المرجعية الأيديولوجية، فإن كليهما تبنى في الواقع نهجًا متقاربًا في جوهره، يقوم على تقليص الاعتماد على الحلفاء التقليديين، واللجوء إلى "وكلاء إقليميين" يمكنهم تنفيذ أجندة واشنطن دون الحاجة إلى تفاهمات واسعة، إلا أن الأول سعى إلى اعتماد واجهة دبلوماسية ناعمة، تَظهر فيها مفردات التعددية والشراكة، بينما كان الأخير أكثر وضوحا في معاداة المؤسسات الدولية، وتقليص الالتزامات، وتحويل الحلفاء إلى أدوات خاضعة، وهو ما يضعنا أمام طبقات متواترة من المحاولة لخلق شبكة من الوكلاء الإقليميين بدلا من الحلفاء التقليديين.
الرؤية سالفة الذكر، سواء التي تبناها ترامب في ولايته الأولى، أو أوباما خلال حقبته، لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن محاولات واشنطن لإدارة الأقاليم في اللحظة الراهنة، في إطار المستجدات الأخيرة خاصة في الشرق الأوسط، والتي تبنت فيه دعما صريحا لتل أبيب، ودعواتها المشبوهة في غزة، مرورا بالمفاوضات التي خاضتها الإدارة مع طهران، ثم الدخول على خط المعركة بين إسرائيل وإيران، انتصارا للحليف المدلل، ثم الحديث مجددا عن الرغبة في التفاوض مع الدولة الفارسية، من منطق القوة المنتصرة، التي يمكنها تدميرها، تارة أو الترغيب عبر الحديث عن رفع العقوبات تارة أخرى وهو ما يعكس تماهيا في الرؤية الأمريكية بين إدارتين، يحملان توجهات وخطابا على طرفي النقيض.
وهنا يمكننا القول بأن الهيمنة "الذكية" بالمفهوم الأمريكي، أصبحت أقل اعتمادا على الحشد الدولي لإضفاء الشرعية على رؤى واشنطن، وإنما تحولت إلى تحويل مفهوم التحالف إلى الوكالة، بحيث يصبح الوكيل منفذا فعليا للتوجهات الأمريكية، مما يساهم في فرضها على مختلف المناطق الجغرافية، بينما في الوقت نفسه تصبح المزايا الممنوحة موزعة على دائرة أصغر من الوكلاء، بعدما كان يتقاسمها عدد أكبر من الحلفاء، منذ الحرب العالمية الثانية، وبزوغ المعسكر الغربي، الذي استلهمت أمريكا القيادة العالمية من خلاله.

Trending Plus