فى مُغازلة الامبراطور وعصمة السفاح.. عن إجرام نتنياهو وترشيحه ترامب لنوبل السلام

الطريق إلى قلب ترامب يمُرّ من أُذنيه، ومهما كنت مُقرَّبًا منه فأنت فى حاجةٍ دائمة لمُغازلته بدأبٍ لا ينقطع. وهذا ما يفعله نتنياهو على طول الخطّ، وقَفَّى على أثره بهديَّةٍ حملها إليه فى الزيارة الأخيرة للبيت الأبيض.
خطابُ ترشيحٍ مهمورٌ بتوقيع أكبر سفّاحى الأرض، إلى لجنة جائزة نوبل للسلام. مُفارقةٌ لم تعُد قادرةً على توليد السخرية أو الأسى، وتبدو كأنها إهانةٌ مُتعمَّدَة لعقل العالم وضميره، واستعراضٌ فَجّ على جُثَّة القِيَم والقوانين.
فالمطعون فى شرفِه أمام شعبه، وفى آدميّته أمام شعوب الأرض جميعًا، يتجاسَرُ على أن يُوطِّد لنفسه مكانًا بين الحُكماء وذوى الرأى الراجح، ويبتذِلُ المعانى الجليلة لأغراضٍ شديدة الدناوة والانحطاط.
قاتلٌ ينثرُ الورود والبارود، فيما شهودُ العَدل يُغمضون عَينًا عن السوءات، ويفتحون الأخرى على المفازات.
لا يُمكن النظر بعين الاعتبار إلى منحةِ مَنْ لا يملك لِمَن لا يستحقّ؛ ولو دَرَجَت عادةُ الصهاينة على أن يتبادلوا الأشياء مع رُعاتهم بتلك الطريقة الوقحة. إذ ما يزالُ زعيم الليكود مُتّهمًا أمام واحدةٍ من أرفع محاكم الدنيا، ومطلوبًا بمذكَّرة توقيفٍ دولية عن وقائع ثابتةٍ بحقِّه، من جهة المسؤولية السياسية أو الشراكة المُباشرة فى الفعل.
والدُّوَل فيما مضى كانت تنأى بنفسها عن تلك النماذج المُشوَّهة، والمُشوِّهة أيضًا، لا أن تُبادر إلى استقبالهم بمراسمَ رسميَّةٍ، أو تقبلُ شهادتهم وهُم مُطوَّقون بالشُّبهات.
وحتى لو لم تكُن الولاياتُ المُتَّحدة مُوقِّعةً على بروتوكول روما المُنشئ للمحكمة للجنائية؛ فإنَّ استقبال أحد المُدَّعى عليهم من جانبها يظلُّ نقيصةً لا تحتمل الاستعراض، وتستوجِبُ السَّتر وعدم التباهى، وليس أن تتلقَّى منه وسامًا مُلطَّخًا بالدم، لتُعلِّقه على صَدر سيِّد البيت الأبيض.
والبدايةُ على تلك الصورة، تجُبُّ كلَّ ما بعدها من تفاصيل الرحلة، وما يُمكن أن تُؤدِّى إليه من نتائج وخُلاصاتٍ. فلم يَعُد المجالُ خُلوًا من الضلالات، ولا خالصًا لوجه السياسة والدبلوماسية.
بل هو أقرب إلى فرعٍ على مجلس الحرب المُنعقِد بين واشنطن وتل أبيب لأكثر من 20 شهرًا، وحلقة تكتيكٍ جديدة فى استراتيجيَّة مُدَارة من البلدين لأهدافٍ أبعد من الحرب والسلام، وأدنى للاحتيال على الجغرافيا والتوازُنات الجيوسياسية، وإعادة ترسيم الشرق الأوسط على مُرتَكَزٍ من أولويَّات إسرائيل، وحساباتٍ وثيقة الصلة بمَنطق الرئيس الجمهورى عن الصفقات والسلام بالاقتصاد أو عبر القوَّة الغاشمة.
وآيةُ ذلك؛ أنَّ المُلتَقَى الثالث بينهما لم يتَّخذ هيئتَه الاعتيادية كسابِقَيْه، أو كأيَّة زيارةٍ رسميّة تنفَتِحُ فيها أبوابُ المكتب البيضاوىِّ لضيوفٍ خارجيِّين. اكتُفِىَ باجتماعٍ مُغلَقٍ أو مأدبة غداء، وصُرِفَ النظرُ تمامًا عن المؤتمر الصحفى المُرتّب على كُرسيَّين كبيرين أمام نار المدفأة؛ لأنَّ المُضيف لا حاجةَ لديه لإحراج الضيف أو الاستئساد عليه، وما من رسالةٍ يُوجِّهانها أو غوامض يفُكّون شيفراتها للحضور والمُستمعين.
لقد اكتفَيا بحوار القنوات الخلفيّة المُظلمة؛ لأنها شراكةٌ فعلية فى ميدانٍ أو ميادينَ مُتأجِّجةٍ، وليست بحثًا عن مُقاربةٍ بعد خلافات، أو عن تسوياتٍ تُقَرِّبُ الرُّؤى بمنطق الوسيط الضامن. السيِّد ترامب جُندىٌّ فى جيش نتنياهو، أو العكس، وغُرَف العمليَّات من طبيعتها ألَّا تفتحَ أبوابَها للجمهور أو الأعداء.
ربما يتَّسع المقامُ بينهما للحظةِ احتفالٍ بالنصر الجُزئىِّ على الجمهورية الإسلامية، وقصقصة ريشِها السارح فى حنايا الإقليم، وإعادة برنامجها النووى شهورًا أو سنواتٍ إلى الوراء.
لكنَّ سؤالَهما الكبيرَ سيظلُّ مُعلَّقًا على الغاية البعيدة فى تأطير إيران، والإجهاز على ما تبقَّى من أذرُعها المُتطاولة بين العراق ولبنان، وصولاً إلى السواحل اليمنية.
وتبقى أوضاعُ غزَّة عُقدةَ العُقَد كلّها، وأصعب الامتحانات فيما بعد «الطوفان» وتداعياته الثقيلة؛ لأنَّ المآلات فيها تتساوى فى حالَتَى الربح والهزيمة، وربما يكون انكسار حماس أكثر إزعاجًا من تصلُّبها ودوامها؛ لا سيما أنها كانت ذُخرًا للمُحتلّ منذ نشأتها، واستثمر فيها مثلما يستثمر فى أُصوله عالية القيمة، وأقلّ خسائره من تحييدها أنه قد يفتقدُ بقرةَ ذرائعه الوَلّادة الحَلّابة.
كما أنَّ الغزِّيين ليسوا يدًا طُولى تنتهى الأزمةُ معهم بالبَتر أو التحجيم؛ مع استحالتهما. وجمرةُ الصراع هُنا تتَّقد داخل البيت، وعلى امتداد فلسطين التاريخية من النهر للبحر، وليست على البُعد مثل جنوبىِّ الليطانى، ولا فى عُهدة الانقطاع الجغرافى الكامل كحال ميليشيات الحوثى والحشد الشعبى، وأخيرًا الحرس الثورى بصُقوره وملاليه المُختبئين فى شقوق الهضبة الفارسية.
أرخى ترامبُ الحَبْلَ لزعيم الليكود منذ يناير؛ لكنَّ ورشة النرويج بشأن جائزتها الرفيعة للسلام تقتربُ من محطَّة الحَسْم، وعليه أن يُلَملِمَ ما يستطيع من الفوضى المُتفجّرة، ويُقنع الحبيب «بيبى» بالاكتفاء بما تحقَّق له حتى الساعة، وتمضية الوقت لحين اقتناص الميدالية الذهبية.
وربما يكون دالًّا أن تُطرَحَ أوسلو مقرًّا مُحتملاً لطاولة التفاوض المُقبلة مع طهران؛ كأنه يتلمَّسُ الطريقَ إلى لجنة الحُكم، ويعرض عليهم نواياه ومُؤهّلاته من النقطة صفر.
وذلك، فيما يُرطِّبُ الأجواء مع لبنان بجهود مبعوثه للشام توم برّاك، ويقبضُ على نقطةٍ ذهبيَّةٍ بالاتفاق المُبرَم أخيرًا بين رواندا والكونغو، وعليه أن يُنجِزَ التهدئةَ المُتعثِّرة فى غزَّة؛ ليستوفى مُسوّغات التتويج.
كان المطبخُ الصهيو-أمريكى نشطًا فى واشنطن، والمبعوث ذو الأُصول اللبنانية يلتقى الرئاسات الثلاثة فى بيروت على طُول يوم الاثنين؛ لاستطلاع رَدّهم على ورقة الشروط الخاصة بتفعيل اتفاق وقف الأعمال العدائية ونزع سلاح حزب الله بمُوجَب القرار الأُمَمىِّ رقم 1701.
وبالتزامن، كانت جولة جديدة من المفاوضات غير المباشرة بين حماس والوفد الإسرائيلى تدور فى الدوحة، لحَسْم النقاط العالقة بشأن الورقة القطرية المُعدَّلة من مُقترح مبعوث ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
صحيح أنها لم تُحقِّق اختراقًا يُذكَر؛ لكنَّ الجميع أقرب للتفاؤل من اليأس، ويعُدّون الجولةَ الأخيرة أكثر تقدُّمًا بما لا يُقاس على كلِّ الجولات السابقة.
الفصائل فى حاجةٍ ماسّة لالتقاط الأنفاس، والاحتلالُ أيضًا، وجبال الجليد ستذوب بفائض الحرارة العالية، لا باعتدال الطقس وتبدُّل الفصول.
سيُراهن الحماسيِّون على دغدغة غرائز ترامب وذاته المُنتفخة، ويُعوِّلُ نتنياهو على امتصاص حماسته، وبعدها سيكونُ لكلِّ حادثة حديث.
ضُيِّعَتْ هوامشُ المناورة من كلِّ الأطراف؛ فلا الفاعلون فى القطاع قادرون على البقاء فى حالهم الراهنة، واعتصار ما تبقَّى من أمل الغزِّيين وطاقاتهم المُتبدِّدة، ولا ائتلافُ الحُكم فى تل أبيب بإمكانه الاختباء طويلاً وراء سردية الخطر الوجودى، بينما يميلُ الشارع لصالحه نسبيًّا، ويطلبُ أسراه بالتزامن مع ضِيق الجيش بالحرب المفتوحة، ورفضه لأيّة مهام يومية ذات طابع مدنىٍّ تجاه غزّة وأهلها.
كما أنَّ السيد ترامب بدَّدَ فُسحةَ الوقت أيضًا فى الضغط على أعصاب المُتحاربين، والتردُّد بين فاعليّة المطرقة ودعائيّة صانع الصفقات، ولم تَسِر الأمورُ على هَواه مع بوتين فى الجبهة الأوكرانية، وعليه أن يضع نقطةً فى آخر سطر المَقتَلَة المفتوحة على الغزِّيين العُزّل، سواء كان يتطلَّعُ بهذا إلى منصَّة نوبل، أو يتوخَّى إنقاذ خطَطه الإبراهيمية، وحراسة أطماعه المُتضخِّمة فى ثروات أغنياء المنطقة.
وغيابُ المُؤتمر الصحفى عن جدول أعمال الزيارة البنيامينيَّة، يُحتَمَلُ معه أنهم يُرتِّبون الجوانب الخططيَّة المُتبقّية من تكتيكات الحرب، أكان فى استراق الساعات بين جولةٍ وأُخرى، أو تحويل ما تعذّر على المُقاتلين لعُهدة المفاوضين.
إنما بجانب هذا؛ يظلُّ الاحتمالُ قائمًا على صعيد الإشارة إلى خصخصة المسار بكامله لصالح رؤية الإدارة الأمريكية، وفرض ولايةٍ ترامبيَّة على أُفقِ الحَدَث وخوافيه، يكون فيها الحليف الصغير على مقعد الإرشاد والتوجيه، ومُكلَّفًا بمهام وترتيباتٍ عليه الوفاء بها، ولا تقبل الجدل أو المراوغة؛ وليس هذا لاختلاف على مصالح إسرائيل وشواغلها الحيوية؛ بل لأنه يعرفها ويُخلص لها أكثر من أصحابها أنفسهم.
أى أن سفّاح الدولة العِبريّة قد استُدعِىَ ليتسلَّم الرسالة باليد، بدلاً من إلقائها فى صناديق البريد السرّية، أو توجيهها بالنكهة الغليظة عبر الإعلام و«السوشيال ميديا» كما يحدث مع الآخرين.
شىءٌ من التمييز النسبىِّ، واحتفاءٌ لا يُمنَح لكثيرين من الشركاء أو الدائرين فى الفلك الأمريكى؛ لكنه يظلُّ من قَبيل الوصاية والاستبداد بالقرار عندما تقتضى الظروف؛ لكنها وصايةُ المُحبّ، ورعاية الأب لطفله الصغير.
سبقَ أن رأينا مشهدًا شبيهًا فى أبريل الماضى. وقتها أُخرِجَ نتنياهو من أجواء زيارته للمجر، واستُجلِبَ على عَجَلٍ إلى البيت الأبيض؛ لتنفجر قنبلةُ المُفاجأة فيه وجهًا لوجه.
أخطره الحبيبُ دونالد بأنه ذاهبٌ لمحاورة الإيرانيين فى سلطنة عُمان، وغلَّ يدَه عن التصعيد المُنفلت مع الأتراك فى الشام، قائلاً بوضوح إنه يحتفظ بعلاقةٍ مَتينة مع أردوغان، ويمكنه تسوية الخلافات بينهما دون صخبٍ أو استعراضات لا مُبرِّر لها.
وكان من نتاج ذلك؛ أنه التقى رجل العثمانية الجديدة ومندوبها بعاصمة الأُمويِّين، أبو محمد الجولانى، فى الرياض على هامش جولته الخليجية، وأعلن رفعَ العقوبات الاقتصادية المُشدَّدة عن سوريا.
حتى الزيارة الافتتاحية مع بدايات الولاية الثانية، فبراير الماضى، لم تَخلُ من الصدمة والإدهاش، عندما طرح للمرَّة الأُولى خطَّتَه للسيطرة على غزَّة وإخلائها لصالح الولايات المُتَّحدة، تحت عنوان «ريفييرا الشرق الأوسط».
ألجَمَتْ المفاجأةُ ملكَ اليهود العجوز؛ لكنها فى الجوهر كانت على هواه، فابتسم فى صمتٍ مُرتاحًا إلى أنه سيتخلَّص من كُتلةٍ ديموغرافيَّة هادرةٍ، ستتكفل بها المَكنَسةُ الأمريكيّة الهائجة، ولعلّه كان يُمَنّى النَّفسَ بانقطاع المشروع فى مُنتصف الدرب، أو تبدُّلِ الأحوال مع الزمن، ومُغادرة الرئيسِ الجمهورىِّ فى مُنتهى ولايته، فيَخلو له وجهُ القطاع دون بَشَرٍ أو حجرٍ وأنفاق وسلاح.
والمُقدِّماتُ السالفة ليست تعبيرًا عن اختلافات حادّة كما يتبدّى ظاهرًا، ولا عن صراعاتٍ مكتومةٍ حسبما رآه بعضُ المُحلِّلين الرومانسيين، وفى منطقتنا المنكوبة بخُبرائها على الأخص.
إذ لا شكَّ مُطلقًا فى التزام ترامب تجاه إسرائيل كأىِّ سَلَفٍ ديمقراطىٍّ أو جمهورىٍّ تسنَّم عرشَ السلطة فى واشنطن، وهو بطبيعة الحال يُفكِّر دومًا من مَنظورٍ مُزدوج، ربما تعلو فيه أهدافُه قليلاً؛ لكنه لا يتناسى الولايةَ الحادية والخمسين لحظةً واحدةً، ولا تأخذه عنها سِنَة ولا نوم.
ومن نافلة القَول؛ أنهم تداولوا بالضرورة فى كلِّ التفاصيل، وظلّوا هكذا طوال الوقت، ولم يَكُن الهجوم على إيران إلَّا بضوءٍ أخضر أمريكىٍّ.
لكنَّ عامل القلق الوحيد لدى الصغير؛ أن الأخ الأكبر دونالد ترامب رجلٌ غير مُتوَقَّع، ويكسر الاعتياد مع القريب قبل الغريب، وهو ما لا يرتاح له عجوزٌ مُجرِّبٌ مثل نتنياهو، تُحرّكه سيكولوجيَّةٌ شُموليَّةٌ لم تَعتَد المُراجعة والاستدراك، ناهيك عن التوقُّف عند خطوطٍ حمراء، وأن يكون وقوفًا تحت عنوان المصلحة؛ فكأنه يجهلُ عن بلده وأولويّاته ما يعرفه شريكه البعيد.
يثق تمامًا فى الحليف؛ لكنه ينزعج بالضرورة من الانحياز إليه بطريقةٍ غير التى يُحِبّ، أو بالأحرى يطيبُ له أن يرسمَ معالمَها بإرادةٍ فردانيَّة خالصة.
وعليه؛ فإنّه يسيرُ كغيره من قادة العالم على حبلٍ دقيق مع البيت الأبيض؛ ولو كانت فى حوزته بطاقةُ أمان مُطلقة الصلاحية. يُريدُ من جانبٍ ألَّا يخرُجَ من عباءة الرجل الجارح، وأقدَر الحُكَّام الأمريكيين على ابتذال القوانين والأعراف وصولاً لأهدافه الجنونية على جُثَث المُناوئين والأتباع، وبالدرجة نفسها لا يُريد أن يظهر تابعًا مسلوبَ الإرادة، ولا أن تُجَيّر عوائدُ جنونه الطويل لصالح الأسطورة الترامبية المنسوجة بالمُتناقضات من كلِّ شكل ولون.
ما يعنى أنه لن يتبجَّح طويلاً على الراعى المزهوّ بأناه العُليا، وحالما يتأكَّدُ من نهائيَّة قراره بشأن مسألةٍ ما؛ فسيكون أوَّلَ السائرين عليها وباصِمى أَوراقها بأصابعه العشرة؛ مُطمئنا إلى أن كل اختيارات واشنطن ستكون دائمًا فى مصلحة تل أبيب.
أىْ أنَّ هُدنة غزَّة محل الأحاديث الجارية مُعلّقةٌ على قناة الاتصال الخاصة جدًّا بين الرجلين، ولعلَّ أُمورَها قد حُسِمَت بالفعل فى لقائهما الأخير، سواء بفرمانٍ ختامىٍّ يُغلقُ الميدان تمامًا ويُصادر مفاتيحه؛ لأنه لا طائل من مواصلة المُطاردة بعدما تساقطت الطرائد قتلاً وإرهاقًا، أو بوقفةٍ وَقتيَّةٍ على مَوعدةٍ بالرجوع إلى القتال لاحقًا؛ لأنَّ الرؤية العملانيّة المُشتركة ما تزال جائعة لاستدراج ضحايا جُدد.
أمَّا حماس والفصائل الرديفة لها؛ فمفعولٌ بهم فى الحالين، ليس لهم من أمرهم شيئًا، ولا فرصةَ لديهم للاختيار أو الاستكبار.
لا عقلَ ولا منطق من البدء للمُختَتَم. يحيى السنوار، وهو من أصحاب الحقّ دون مُجادلةٍ، لم يَكُن حصيفًا بالمرّة وهو ينخرطُ فى مُقامرة الطوفان دون استراتيجيَّةٍ حربية أو بدائل سياسية واضحة، وبالتالى فلَمْ يكُن غريبًا أو صادمًا أن يُفَعّل نتنياهو كاملَ عُدّته الإباديَّة، وهى مسألةٌ سَبَق اختبارُها وتكرَّرت كثيرًا فى أحوالٍ أقلّ صخبًا من هجمة الغلاف.
وعليه؛ حلَّ بايدن ورموزُ إدارته على «كابينت الحرب»، واستلم ترامب الرايةَ من النقطة نفسها. وفيما كان يُبشِّرُ بإنهاء الحروب، يضربُ فى أعماق إيران كأنه يُلوِّح بعَصَاه ليرُدَّهم إلى الحظيرة، وليس بأُمِّ القنابل وأضخم القاذفات فى ترسانة الجوِّ الأمريكية.
وما بدأ بتلك الكيفيّة الغَبيّة من الناحيتين، يُستَكمَلُ من جهة حماس بالقبض على سرديَّة النصر دون بُرهانٍ واضحٍ أو اتّضاع مسؤول أمام المأساة، والتشدُّد على حساب بيئتها المُدَمَّرة تمامًا، ويُسوّق فيه الرئيسُ الأمريكى انحيازَه على صِفَة الوساطة المحايدة.
ومن ثَمَّ فليس غريبًا أبدًا أن يكون ختامُه مِسْكًا برائحة الدم العَطِن، عندما يخرجُ نتنياهو من محاكمات الرشوة والفساد، ويُطيل دورانَه فى سماوات العالم كى لا يُضطَرَّ تحت أىِّ احتمالٍ للهبوط الطارئ فى دَولةٍ تُسلِّمُه للجنائية الدولية، بينما يطوى فى جَيب سترته رسالةَ تزكيةٍ لحليفه الأفضل على مَرِّ التاريخ لجائزة نوبل، فى أسوأ ترشيحٍ يُمكن أن يُوضَع أمامَ اللجنة النرويجية، حتى بالنظر إلى مَنحِها لسفَّاحين مُثيرِيْن للتقُّزز من نوعيَّة بيجين ورابين وشيمون بيريز، أو بالقياس على مُكافأة أوباما بها استباقيًّا، قبل أن يُخَرِّب الشرقَ الأوسط على جناح الربيع العربى، وبرعايته للأُصوليّة الإخوانية وتدليله الفَجّ لإيران.
يسيرُ العالمُ إلى الخلف، وبظهره لا بالمُواجهة. رجوع بطئ ومُتعثّر، وسيحتاجُ إصلاحُه لعقودٍ طويلة تالية. وتتجلَّى الكُلفةُ بأوضح ما تكون فى غزَّة التى لم تَعُد صالحةً للحياة، وتُطلُّ على استحياء من شبابيك الأُمَم المُتَّحدة الآخذة فى الانحسار، وتحت رايتها المُوغِلة فى الذبول، ومن كَتْم ما تبقَّى من أنفاس النظام الدولى القائم على القواعد.
لم يَعُد القَتلُ وجهةَ نظرٍ حتى الآن، ويُناضل الضمير الإنسانى لاستنقاذ السرديّة من الحناجر المُزمجرة والبنادق المُذخَّرة؛ لكنَّ القاتل بإمكانه أن يتحدَّث إلى العالم من أكبر عواصمه، وأن يُرشِّح داعميه لأرفع الجوائز والتكريمات، ثمَّ يتحصَّل على المُقابل فى رحلته عودته، مزيدًا من الصواريخ والأسلحة الفتَّاكة، وتصريحًا بإطلاق اليد فى انتهاك القانون وسَحق الإنسانيَّة بحذاءٍ توراتىٍّ نازىٍّ ثقيل.
سيعود الحوار مع إيران؛ ولو كابرت، ولن تُمنَع تلُّ أبيب من الوصول المُتجدِّد وغير المُحدَّد زمنيًّا إلى طهران كلما اقتضت الحاجة. ستُبرَمُ هُدنةٌ فى غزَّة؛ ولو عند الحد المُرضِى ظاهريًّا لحماس، لكنها مسألةُ وقتٍ قبل أن تُطرَح الحركةُ من المُعادلة تمامًا، بارتضاءٍ يَعقبُه اقتفاءٌ لآثار قادتها وعقابهم، أو بخشونةٍ تُعظِّم الفواتير وقتيًّا ولا تُوفِّر منفذًا للهروب لاحقًا. وحزبُ الله مَدعوّ لإلقاء السلاح؛ إنما لا غضاضة لديهم فى احتفاظه بما يكفى لإرباك لبنان دون إزعاج إسرائيل.
ما كان قائمًا لا سبيلَ لاستدراكه، والجديد يُصاغ على إيقاع اختلال المُمانَعة وتَخلخُل أبنيَتِها، وثمّة أطرافٌ جاهزون على خطِّ الملعب للالتحاق بفريق ترامب، أو الدخول فى الزمن الصهيونىِّ المفروض عليهم من السيد الأعلى، وفيهم بعضُ من يُتاجرون بالقضية ويدَّعون لأنفسهم صلاحيةَ القيادة والحديث باسم المنطقة.
إنه صراعٌ بين طائفتَيْن من الخَدَم، بعضهم أقربُ لعبيد الحقل الأشدَّاء، والبعضُ من عبيد الدار المُستكينِين الأوفياء. الأوّلُ يُشاغِب قبل التطويع، والثانى يُطاوِع قبل صدور الأوامر أصلاً.
مصرُ التى خاضت تجربةَ السلام المُبكِّرة، وتعرَّضت لأبشع صُوَر المُزايدة والتعريض، تبدو وحدَها الأكثرَ جدّيّةً وثباتًا على المبدأ فى أزمنةِ الاحتراب والفوضى.
كأنَّ المُسلَّحين يُعبِّدون الطريقَ بالذرائع، والمُسَلِّمِين ينثرون الذهبَ والفضَّةَ تحت أقدام الغُزاة المُنتصرين.
المنطقةُ تحت رحمة الجنون؛ غير أنه يتوزَّعُ على لونين مُتضادَّيْن شكلاً ومُتطابِقَيْن فى المضمون: صاخبٍ لا يملكُ ما يُعزِّز فورانَه أو يُؤمِّنُ استدامتَه، وهامسٍ لا يُوفِّر غاليًا أو نفيسًا لشراء الرضا وتقديم فروض الولاء والطاعة؛ وتطوُّعًا فى غالب الأحيان.
الجميع فى عِصمة ترامب، بالتفاوض أو العطايا أو الترشيح لنُوبل، وترامب نفسُه فى عِصمة تل أبيب.

Trending Plus