مستقبل المهن.. تحولات جذرية لبناء الإنسان

أضحت المهن اليوم مرآة عاكسة لتحولات عميقة تطال الإنسان في جوهره ووعيه، وقيمه، ومهاراته، وعلاقته بالعالم من حوله، واستعداده للانخراط في مستقبل تتبدل فيه الحدود الدقيقة بين ما هو بشري وما هو تقني، فالعمل أصبح فضاءً مفتوحًا لإعادة تعريف الإنسان لذاته، ضمن عالم تعاد فيه صياغة المفاهيم التقليدية للإنتاج والفاعلية والجدوى، فالحديث عن مستقبل المهن أصبح امتدادًا مباشرًا للسؤال الجوهري عن كيفية بناء الإنسان في زمن ما بعد الحداثة التقنية، حيث تقاس كفاءاته التقنية بقدرته على التكيف المبدع والمرونة الذهنية، والارتقاء بالمهارة إلى مستوى من الابتكار الأخلاقي والتفكير الناقد.
وفي ظل هذه التحولات الجذرية، تعاد صياغة خريطة العمل والمجتمع ومستقبل المهن، حيث تتداخل الوظائف، وتتقاطع التخصصات، وتذوب الحدود بين المهن التقليدية والمجالات الناشئة، وفي ظل هذا المشهد الجديد، لا ينجو إلا من يمتلك القدرة على التعلم المستدام وإعادة تشكيل ذاته باستمرار، والانخراط الواعي في عالم أضحي ثمرة للقدرة على العبور بين العوالم، والتأليف بين المعارف، والربط بين القيم والتقنيات، إنها لحظة استدعاء للوعي، ولإعادة تعريف المهارة كبوصلة أخلاقية وفكرية لبناء المستقبل.
وقد شهد التاريخ الإنساني أربع ثورات صناعية، لكل واحدة منها أثرها العميق في تشكيل المهن، لكن الثورة الرابعة بثقلها الرقمي والبيولوجي، القائمة على الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء، والروبوتات، والبيانات الضخمة تتجاوز التغيير التكنولوجي إلى إعادة تعريف العمل ذاته، وصياغة العلاقة بين الإنسان والآلة وامتلاك المهارة، فالمهن غدت مساحة لتجسيد الذكاء العاطفي، والقدرة على التعلم المستمر، والقيادة الذاتية، إننا أمام ثورة إنسانية تعيد الاعتبار إلى المهارات الشخصية والاجتماعية وتستلزم إعادة تعريف المهني الناجح بوصفه كائنًا قادرًا على فهم ذاته، وإدارة عواطفه، وبناء علاقات تعاونية وصنع القرار الأخلاقي في بيئات معقدة ومتغيرة.
وتتجلي التحولات الجذرية في طبيعة العمل وفي أنماط الإنتاج وفلسفة المؤسسات والأدوار التي تؤديها داخل المنظومات المؤسسية والاقتصادية، وهو ما يستدعي إعادة النظر في مخرجات التعليم، وأولويات التكوين، ومعايير الجدارة والكفاءة، حيث أصبح من الضروري التفكير في المهارات كعناصر ديناميكية تفاعلية تتطور باستمرار وتعاد صياغتها، فالتقدم نحو المستقبل بات يتطلب من الإنسان أن يكون مسلحًا بمهارات مركبة ومعقدة، تمتد لتشمل أبعاد الذكاء الإنساني في أوسع معانيه من التفكير النقدي إلى الذكاء العاطفي، ومن القدرة على التكيّف إلى الإبداع وحل المشكلات المعقدة.
ويجب أن تفهم المهن من خلال سياقها الوظيفي وما تتطلبه من مهارات مركبة تجمع بين المعرفة التقنية، والفهم العميق للسياقات المجتمعية، والذكاء العاطفي، والقدرة على الإبداع والتكيف والمهارات التفاعلية والمعرفية التي تقتضيها، فكل مهارة مستقبلية تفتح آفاقًا لمهن جديدة، وتعيد تعريف أدوار مهنية تقليدية، وتفرض على المؤسسات التعليمية والتدريبية أن تعيد رسم خرائطها، لتنتقل من مجرد الاستجابة للتغيير إلى المساهمة الفاعلة في صناعته كما صار الخريجين مطالبين بابتكار وظائف جديدة وفهم الأنظمة الرقمية، والعمل ضمن فرق متعددة التخصصات، والتعامل مع الذكاء الاصطناعي، والتفكير التصميمي، وتحليل البيانات، والاستدامة البيئية، والهندسة الوراثية، وصناعة المحتوى الرقمي، والعلاج النفسي الرقمي، والتعامل مع تعقيد العالم بوعي إنساني متكامل، إننا أمام تحول في منطق الكفاءة ذاته، من المهارة الأدائية إلى المهارة القيمية والكفاءة التعاونية المتداخلة.
كما نسلط الضوء علي أهمية المهارات الناعمة بوصفها الأساس الذي يبنى عليه الأداء المهني المستدام وتشمل مهارات القيادة، التواصل الفعال، التفكير النقدي، الذكاء العاطفي، القدرة على حل المشكلات المعقدة، وإدارة التغيير، وهي مهارات ضرورية ووجودية في بيئة عمل باتت تحكمها المرونة، والتعلم المستمر، والتعاون عبر التخصصات، ولعل من المثير للتأمل أن كل مهارة مستقبلية تفتح المجال نحو العمل فعلى سبيل المثال، باتت مهن مثل منسق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، أو مهندس البيانات الأخلاقية، أو مصمم تجارب التعلم المخصص، جزءًا من خارطة العمل المستقبلية، مما يدل على أن المهارة هي مدخل لرؤية جديدة للعالم، وفي ضوء ذلك تتأكد الحاجة إلى رؤية تربوية ومجتمعية جديدة، تنظر إلى المهارات كاستثمار مستدام في الإنسان.
ورغم الهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا وتغلغلها في تفاصيل الحياة اليومية، يبقى للإنسان دوره المركزي في منظومة التقدم، لاسيما حين يعاد تعريف المهارة باعتبارها القدرة على التحليل والفهم والتأويل والابتكار في سياقات غير مسبوقة، وهنا يتجلى الفارق الجوهري بين الذكاء الاصطناعي والذكاء الإنساني، الذي يتجسد في البصيرة والضمير والقدرة على اتخاذ قرارات أخلاقية في مواقف غير تقليدية تستدعي من الإنسان حضورًا روحيًا وقيميًا.
وعند مواجهة التحديات المعقدة التي تتجاوز أنماط التفكير الخطي والنمطي، تتجلى أهمية الإنسان بوصفه فاعلًا أخلاقيًا ومبدعًا حرا وقائدًا لتقنيات العصر، في إطار رؤية إنسانية شاملة تعيد الاعتبار للإنسان كغاية وكذات حرة مسؤولة، ويكمن مستقبل المهارة في تعميق إنسانية الإنسان وتعزيز قدرته على الحكم الرشيد وصقل حضوره الذهني، وتكريس التفكير الاستباقي والقدرة على التعلم المستمر وإعادة التعلم، وممارسة التعاطف الواعي واتخاذ قرارات قائمة على البصيرة في عالم تتسارع فيه المتغيرات وتتسع فيه المساحات الرمادية.
ونؤكد أن بناء الإنسان المهني يبدأ منذ الطفولة، عبر تربية تنمي حب التعلم، وتقدير العمل، والانفتاح على العالم، وتنشئة الحس النقدي، والقدرة على اتخاذ القرار الأخلاقي في سياقات مركبة، فالمهارات التحولية تصاغ عبر تجربة تربوية حية، تتفاعل فيها القيم مع المعارف وتتجلى فيها الذات، فالحاجة أصبحت ملحة لتربية المستقبل، تربية تدرك أن المؤسسات التربوية مطالَبة بأن تكون مختبرًا حيا لبناء المهارات التحولية، ومجالًا لإطلاق الطاقات الإبداعية، ومنصة لتشكيل الوعي الإنساني والمهني، بما يضمن إعداد أجيال قادرة على التعامل مع تعقيدات العالم، وصوغ حلول أصيلة، وقيادة التغيير من موقع القيم والضمير، ومن ثم تصبح المهارات مدخلًا لتشكيل ذات حرة مسؤولة، تعيد صياغة علاقتها بالتقنية في ضوء قيم الحرية المسؤولية الواعية، والكرامة الإنسانية، والابتكار الأخلاقي، بحيث يكون الإنسان مستخدم للتقنيات قائدًا لوجهتها ومطورًا لها، وراسمًا لحدودها القيمية، ومحررًا لقدراته الكامنة، وممارسًا لدوره الحضاري في صياغة المستقبل.

Trending Plus