جدل .. الثقافة والتنمية

احتلت المحددات الثقافية مكانة فى العلوم الاجتماعية منذ الأربعينيات والخمسينيات فى القرن العشرين، ثم خفّ الاهتمام بها، لكنه عاد بقوة فى التسعينيات، وسُمّى بالمنظور الموجّه للثقافة فى التنمية، ومنذ ذلك الوقت أصبح الاهتمام منصبًّا ليس فقط على الثقافات الغربية، وإنما على الثقافات المحلية أيضًا فى العملية التنموية.
بدأ مزيد من المفكرين فى دراسة العلاقة بين التنمية والثقافة خلال العقدين الماضيين، من خلال التركيز على العوامل المعنوية والثقافية. فعلى سبيل المثال، اهتم كلٌّ من هانتنجتون وهاريسون بأهمية المتغيرات الثقافية، انطلاقًا من المقولة: "الحقيقة المحافظة المركزية هى أن الثقافة هى التى تحدد نجاح أى مجتمع، وليس السياسة، فهى الحاضر المسكون بالمستقبل، فى حين أن الليبرالية المركزية ترى أن السياسة تستطيع تغيير الثقافة". وفى كلا الحالتين تتضح مكانة الثقافة.
عقب الحرب العالمية الثانية، أصبحت الثقافة هى التصور السائد فى الفكر الغربي، خاصة فى مدرسة الحداثة، وهى التى تساعد على تطبيق المشروع التنموي. ومن ذلك الوقت، تُستخدم المحددات الثقافية كمحدد مستقل يشكل تأثير مسار التنمية.
ومثالًا على ذلك، كانت إحدى نتائج دراسة ترشيح لاتفيا لتكون عاصمة الثقافة الأوروبية، وذلك بعدما كانت تمر بمرحلة اقتصادية قاسية، وقررت وقتها التركيز على تطوير الفنانين والسكان، وفقًا للبرنامج الذى بدأ فى عام 2008 حتى 2014، وكان هدفها تقييم تأثير مشاركة السكان على تطوير العاصمة. اعتمدت على التحليل والمقابلات النوعية، حيث قامت بإشراك السكان كمشاركين بهدف تعميق مفهوم التنمية والتأكيد على البعد الثقافى الذى يؤثر على نوعية الحياة والرفاهية والاستدامة. وتمثّل التطوير فى ستة خطوط، منها ما يسمى بـ"خارطة الطريق"، والتركيز على مشاركة السكان المحليين فى الأنشطة الاجتماعية والثقافية. وقد أُجرى المسح بعد عام 2014، ووجد أن أغلبية السكان (80%) استجابوا للمشاركة فى البرنامج، نظرًا لأن الأنشطة الثقافية يمكن أن تولد مجموعة كبيرة من الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، مما حقق دورًا للثقافة فى التنمية المحلية.
ووفقًا لباحثى السياسة الثقافية تشارلز لاندرى وفرانكو بيانشيني، فإن الثقافة والإبداع يجب أن يكونا هدفًا بعيد المدى للمجتمع. فالحركة نحو مدينة أكثر إبداعًا تتطلب آلاف التغييرات فى التفكير، مما يخلق الظروف لكى يصبح الناس عوامل للتغيير بدلاً من كونهم متلقين سلبيين أو ضحايا للتغيير. لذلك يجب أن يكتسب الناس مهارات التفكير العليا. ويرتبط مفهوم المدينة الإبداعية، إذا كانت ترغب فى اعتبارها منطقة صديقة لسكانها، بتطوير أماكن يمكن للناس الالتقاء بها. فالناس يحتاجون إلى "مساحات ثالثة"، إما خارج المنزل أو العمل، حيث يمكنهم الالتقاء معًا. وبعبارة أخرى، ينبغى للمدن إعادة تقييم بنيتها التحتية، أى القدرة على القيام بأشياء جديدة بالاعتماد على المعرفة الموجودة.
إن المدن التى تضم الكثير من الأشخاص المبدعين والموهوبين، أو ما يسمى بـ"الطبقة الإبداعية"، تكون أكثر قدرة على بدء التغييرات، وعدم الخوف من الغموض أو التناقضات. وبصرف النظر عن الفردية التى هى من الخصائص الحالية لسكان المدينة المعاصرة، فإن الناس يقدّرون العلاقات الاجتماعية ويطورون ما يسمى بـ"عائلة الشبكة"، أى أنهم أحيانًا يقدّرون العلاقات بين الجيران والمعارف بالإضافة إلى الأصدقاء أكثر من أسرهم الحقيقية. ولذلك، فإن الأحياء التى يعيش فيها الناس بالقرب من بعضهم البعض بشكل موثوق، تلعب دورًا حاسمًا فى تحسين نوعية حياة السكان المحليين.
غالبًا ما تواجه الأحياء تحديات اقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة. وخلال العقود الأخيرة فى أوروبا، أصبح للثقافة دور أكثر أهمية فى عمليات تجديد الأحياء. ومن منظور السياسة الثقافية، هناك نهجان ونوعان من الأدوات لاستخدام الثقافة فى تطوير الأحياء:
النهج الأول يتمثل فى الاقتراب من التوزيع المكانى للخدمات الثقافية، ويعنى فى الغالب تطوير مرافق الفنون القائمة على الأحياء.
النهج الثانى هو التدخل من خلال الأنشطة الثقافية والاقتصادية والبيئية، حتى أصبح الإبداع البشرى هو العامل الرئيسي.
وسبق أن أشار روى داندراد إلى أن "دراسة الثقافة تشبه دراسة الجليد عند المنتصف؛ كتلة جليدية منهارة تتحرك منذ زمن طويل".
لقد تطور مفهوم التنمية وأهمية البعد الثقافى فيها منذ أواخر الأربعينيات حتى أواخر الستينيات من القرن العشرين، فى البلدان النامية التى ينخفض فيها مستوى الدخل الفردى قياسًا بالمستوى المتحقق فى البلدان المتقدمة. وقد عُرفت التنمية وقتها بالزيادة السريعة فى مستوى دخل الفرد عبر الزمن، وكانت تُعتبر مرادفًا للنمو الاقتصادى السريع.
وأصبح هذا الافتراض صريحًا بعدما كان ضمنيًا منذ صدور كتاب "مراحل النمو الاقتصادي" للأمريكى والت روستو عام 1959، الذى يرى أن عملية التنمية تتضمن عددًا من المراحل المتتابعة التى يتعين على كل الدول النامية أن تمر بها، وهى نفس المراحل التى مرت بها الدول المتقدمة فى رحلتها من الركود إلى التقدم.

Trending Plus