صوم العذراء مريم.. أم النور فى قلوب الأرثوذكس والكاثوليك.. صلوات واعترافات وتمجيد خلال أغسطس.. تراتيل ومدائح تحمل عبق السماء أبرزها السلام لكى يا مريم.. وقداسات يومية وسهرات روحية في كل كنيسة

في بداية شهر أغسطس من كل عام، يدخل ملايين الأقباط في مصر والمهجر مرحلة جديدة من مراحل التقوى والنسك الروحي، مع حلول صوم السيدة العذراء مريم، أحد أعمق الأصوام شعبية ومحبة لدى عموم الشعب المسيحي في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية. ويُعد هذا الصوم -الذي يبدأ في 7 أغسطس ويستمر حتى عيد العذراء في 22 أغسطس- فرصة للعودة إلى الذات، وعيش حياة الصلاة والتسبيح والتوبة.
بين الأرثوذكس والكاثوليك.. وحدة في المحبة
رغم بعض الفوارق الطقسية بين الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية، إلا أن صوم العذراء يمثل نقطة التقاء روحية، حيث تُكرم مريم العذراء باعتبارها "أم النور" و"أم الكنيسة"، وتُرفع في هذين الأسبوعين الصلوات والطلبات لشفاعتها. في الكنيسة الكاثوليكية يُحتفل بعيد انتقال العذراء بالنفس والجسد في 15 أغسطس، بينما تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية بعيدها في 22 أغسطس، مع ختام الصوم.
مظاهر الاستعداد الروحي: صلوات وتسابيح وتوبة
ومع اقتراب موعد الصوم، تبدأ الكنائس في تنظيم سلاسل من العظات اليومية التي تتمحور حول فضائل العذراء مريم، ونماذج لتوبتها، وتقديمها الكامل لمشيئة الله. وتُكثف الصلوات الخاصة، لا سيما تسبحة نصف الليل التي تتضمن مدائح خاصة بالعذراء تُعرف باسم "التمجيد".
وتزداد في هذه الفترة الاعترافات الفردية، إذ يرى العديد من الآباء الكهنة أن صوم العذراء هو "فرصة للتوبة الفردية"، خاصة أن العذراء مريم نفسها تمثل رمزًا للطهارة والخضوع الكامل لإرادة الله.
الأطعمة الممنوعة خلال الصوم
ويمتاز صوم العذراء بأنه صوم انقطاعي نباتي بالكامل، على غرار صوم الميلاد أو صوم الرسل. يُمنع خلاله تناول أي أطعمة تحتوي على لحوم أو ألبان أو بيض، وتلتزم الأغلبية بالامتناع حتى عن الزيوت في الأيام التي لا يُسمح فيها بذلك (أيام الأربعاء والجمعة).
وتشمل الأطعمة المسموح بها: البقوليات، الخضروات، الفاكهة، الحبوب الكاملة، الأرز، والعدس. ويُفضل دائمًا تناول الطعام بعد فترة من الانقطاع تُقدّر بين 6 إلى 9 ساعات من بداية اليوم، حسب قدرة كل شخص.
الترانيم والمدائح.. لغة العاطفة الروحية
وتعلو أصوات التسابيح في هذا الصوم بمدائح خاصة تُعرف باسم "تراتيل العذراء"، منها: "السلام لكِ يا مريم"، و"العذراء في كنيسة"، و"يا أم النور". وتُعد هذه الترانيم من أبرز سمات الاحتفال الليتورجي في صلوات السهرات اليومية، خاصة في الليالي التي تسبق عيد العذراء.
وتشهد الكنائس -لا سيما الكنائس الأثرية والأديرة- حضورًا كثيفًا من المؤمنين للمشاركة في هذه الترانيم، التي تمزج بين اللحن القبطي القديم والروحانية العاطفية العميقة.
جدول القداسات والنهضات الروحية
وتُعد نهضات العذراء من أبرز التقاليد المتبعة خلال هذا الصوم، وتستمر لمدة أسبوعين في معظم الكنائس، حيث تُقام نهضات روحية تتضمن:
القداس الإلهي اليومي في الصباح، غالبًا ما يبدأ بين السادسة والثامنة صباحًا.
العظة الروحية اليومية مساءً بعد صلاة عشية.
سهرات الترانيم والتسبحة، تُقام في بعض الكنائس أيام الجمعة والأحد، وتُختتم غالبًا بفقرات ترفيهية دينية للأطفال والشباب.
ويُعلن في بداية الصوم جدول نهضة كل كنيسة، سواء كانت في المدن أو القرى، ويتسابق الشباب القبطي على تنظيم هذه الفعاليات، بمشاركة الكهنة والخدام.
الأعياد الشعبية في الأديرة.. وأيقونة العذراء
وتشتهر الأديرة الكبرى مثل دير السيدة العذراء في درنكة (أسيوط)، ودير جبل الطير، ودير المحرق، بتنظيم احتفالات شعبية كبرى تستقطب آلاف الزائرين من مختلف محافظات مصر. ويأتي الزوار حاملين نذورهم، طالبين شفاعة العذراء، ومتباركين بالأماكن التي ظهرت أو أقامت بها مريم العذراء حسب الموروث القبطي.
كما تتصدر أيقونة "العذراء الحنونة" واجهات الكنائس في هذا الصوم، وتُضاء الشموع أمامها، وتُزين بالأزهار، وتُقام الزفات الرمزية في بعض الكنائس.
العذراء مريم.. أم لكل العصور
ويبقى صوم العذراء مريم موسما روحيًا فريدًا، يجمع بين التقشف والفرح، بين الصمت والتسبيح، بين التوبة والرجاء. فمريم، التي صمتت كثيرًا في الإنجيل، ما زالت تتكلم في قلوب المؤمنين، وتدعوهم أن يسلكوا طريق الاتضاع والرجاء.
وبينما يبدأ العد التنازلي لهذا الصوم المبارك، تتهيأ القلوب قبل الموائد، وتُضاء الشموع قبل المصابيح، وتعلو أصوات التسابيح قبل الأجراس... فالعذراء مريم، أم النور، على الأبواب.

Trending Plus