أنس الشريف.. صرخة الحقيقة فى زمن الصمت

ناجي العلي، مثل غسان كنفاني، محمود درويش، وسميح القاسم، كانوا دائمًا جزءًا من وعينا منذ الصغر، أتذكر جيدًا أن شقيقتي الكبرى "ناهد" كانت تزين جدار غرفتها بصورهم، وكنت حينها طفلًا لا يتجاوز العاشرة، أبحث عن ملامح مستقبلي بين أحلام الطفولة وأسئلة البراءة.
ذات يوم، جاءتني شقيقتي تطلب مني كتابة رسالة إلى أطفال غزة الذين يواجهون الاحتلال بالحجارة فقط. مضى أكثر من 30 عامًا على ذلك المشهد، لكنه ما زال حيًا في ذاكرتي، ربما لأننا تربينا على أن عدونا الأول والأخير هو الكيان الصهيوني الذي لا يفوت فرصة لتحقيق أهدافه الشيطانية.
اليوم، أستيقظنا على آخر وصية للشهيد أنس الشريف، التي انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي:"أوصيكم بقرة عيني، ابنتي الحبيبة شام، التي لم تسعفني الأيام لأراها تكبر كما كنت أحلم... أوصيكم كثيرًا بفلسطين".
وصية تجرح القلب وتوقظ الضمير، وتجعلنا نبكي على زمن صار فيه الباطل حقًا، وعلى قلوب تحجرت أمام مشاهد قتل الأطفال والنساء والشيوخ يوميًا، في ظل صمت دولي مخزٍ.
صرخة أنس جاءت في وقت تاهت فيه القضية الفلسطينية وسط زحام الذاتية، وانقسامات العرب، وغياب الفكرة التي كانت تتوارثها الأجيال: أن نقف جميعًا صفًا واحدًا حتى تنال فلسطين حقها في العيش بسلام داخل وطنها.
كلمات أنس أعادت إلى ذاكرتي قول ناجي العلي: "كنت قاسيًا على الحمامة لأنها ترمز للسلام... لكن هذا السلام الذي يطالبوننا به هو على حسابنا، وضمير العالم ميت، والعالم أحب غصن الزيتون لكنه تجاهل حقنا في فلسطين".
كلمات تختصر العمر والوجع، وتكشف حجم الخسارة حين يُقتل الصحفي لأنه حمل الكاميرا بدلًا من السلاح.
رحيل أنس الشريف لم يكن مجرد فقدان صحفي، بل خسارة لصوت الحقيقة في زمن الضباب الإعلامي، كان من الأصوات النادرة التي تمسكت بالمصداقية والموضوعية، دون أن تحيد عن مبادئها الوطنية.
اليوم، أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى أصوات مثله، تنقل الحقيقة بلا خوف، وتزيد وعي الناس بما يحدث، وتثبت أن كلمة الحق ما زالت قادرة على الصمود.
لكن الصورة الكبرى تظل قاتمة.. العين لا تحتاج إلى مجهر لرؤية التصدع في الجدار العربي: دول أنهكتها الحروب مثل العراق وسوريا وليبيا، وأخرى غارقة في صراعاتها الداخلية، وثالثة أسرتها أوهام التفوق والزعامة على حساب المصير المشترك.
وفي قلب هذه الفوضى، تبقى فلسطين الجرح النازف، تعاني انقسامًا داخليًا لم ترحمه آلة الاحتلال ولا ألاعيب السياسة.
صحيح أن لكل دولة ظروفها، لكن جزءًا كبيرًا من هذا التدهور تتحمله أنظمة الحكم العربية التي انشغلت بمصالح آنية، وأدارت ظهرها لمشاريع الوحدة، بل فرطت فيها لصالح إملاءات خارجية أو حسابات خاصة.
اليوم، لم يعد يكفي الخطاب العاطفي.. نحن بحاجة إلى مراجعة شاملة وصادقة للواقع العربي، قبل أن نفقد ما تبقى من أوطاننا وأحلامنا.
اللهم احفظ أوطاننا، واجعل مستقبل أبنائنا أفضل مما عشناه

Trending Plus