بين سطور كمت «4»

ما زلنا مع الحديث عن التاريخ المصرى القديم وطريقة التعامل معه، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة..
ماذا يفعل المستوطن المحتل؟
إنه يسعى لطرد أصحاب الأرض الأصليين من وطنهم، ويحل محلهم بالقوة، ولكن هذه ليست نهاية المطاف، فعليه بعد أن يثبت «حقه» وأن يصنع لنفسه تاريخا فى تلك الأرض.. لا بد إذن أن يقوم بمحو هويتها الأصلية - أو تراكم مكونات تلك الهوية - ويخلق هوية مصطنعة «على مقاس» خططه وتطلعاته.. هذا ما حدث مع الأمريكيين الأصليين فى الأمريكتين، ومع الفلسطينيين فى فلسطين المحتلة، وفى كل مكان كان هدفا للإحلال والاستبدال.. تلك العملية لا تجرى فى الأراضى فقط، وإنما فى العقول والنفوس أيضا.
تعالى نفكر معا.. لو أنك تريد أن تغزو عقل إنسان بفكرك وأن تجذبه إليك وتجعله طوع أمرك، لكنك تواجه مشكلة أنه بالفعل لديه فكر وهوية وانتماء، ما الذى ستفعله؟
ستبدأ أولا بضرب أساس فكره وهويته وانتمائه بشكل مستمر وبصبر شديد - فأنت تخطط للمدى البعيد وليس القريب العاجل - وستزرع الشك تدريجيا فى نفسه تجاه ثوابته، ثم تستمر فى خلخلة قواعد أعمدة هويته من خلال شيطنتها وإشعاره بالعار منها، حتى تصل إلى هدفك: انقطاع الأسباب بين ذلك الإنسان/ الهدف وهويته.. هكذا قمت بـ«طرد» السكان الأصليين لعقل هذا الشخص، وها أنت تستعد لإحلال المستوطنين محلهم
ولأن الإنسان يسعى دائما لأن يشعر بالانتماء لشىء ما فسيريد «الهدف» أن يبحث عن هوية بديلة، هذه هى فرصتك، قم بزرع ما تشاء، ولكن عليك أن تجيد ربط الأطراف المقطوعة لهويته بأطراف «مستوطنيك» الجدد بحيث لا يتخيل لنفسه انتماء أو هوية أخرى.
هذا ما يفعله المتطرفون والمتعصبون دينيا، فهم لا يتقبلون فكرة التعايش والتكامل بين مكونات الهوية المصرية - الفرعونية والقبطية والبحرمتوسطية والأفريقية وغيرها - ويصرون على أن الهوية الحصرية لمصر هى أنها «إسلامية عربية»، وسبب رفضهم ذلك التعايش، وتحسسهم المستمر من تنوع المكونات والروافد الحضارية بسيط وواضح: أن نسختهم من الإسلام والعروبة هى الأضعف والأكثر هشاشة حضاريا، بحيث إنها لا تصمد فى سياق التنافس - ولا التكامل - مع باقى مكونات الهوية، وأعتقد أننا نستطيع استنتاج وتخيل هشاشة فكر أناس يختصرون الحضارة الإسلامية والعربية فى شعارات العثمانيين القتالية وجمود التدين البدوى الصحراوى وتحويل التاريخ الإسلامى إلى حائط مبكى كبير على الفردوس المفقود والمجد الزائل.
لا بد إذن من تشويه العنصر الفرعونى فى الموروث الحضارى للمصريين، فالحضارة المصرية القديمة ليست أعظم حضارات العصور القديمة، ولا هى التى تعلمت منها الحضارات المعاصرة والتالية لها، ولا هى التى بدأ منها «فجر الضمير» - على حد وصف العالم الأمريكى جيمس هنرى برستيد - وخرجت منها الفلسفات الأخلاقية ومبادئ العدل والحق، بل هى «الحضارة العفنة» و«حضارة آل فرعون الكفار الطغاة» وهى «حضارة القوم الكافرين الهالكين».
لهذا تقوم قيامة هؤلاء بحدث مثل موكب المومياوات الملكية أو افتتاح طريق الكباش بالأٌقصر، فمثل تلك الأحداث لا تمثل فقط إحياء لجذوة الفخر بأجدادنا القدماء فى نفوسنا، وإنما هى تستفز من يريدون القراءة والبحث فى تفاصيل تلك الحضارة القديمة العظيمة، والقراءة والبحث والتفكير والتأمل هم أعداء الظلاميين الذين ينطبق عليهم قول الشاعر عبدالرحمن الأبنودى فى مقدمة مسلسل رفاعة الطهطاوى «نحن نريدكم صمٌ بكمٌ بجم.. لأن من يتعلم يفهم ويتكلم.. يخرج على تقاليد.. ونحن لا نريد تعليم نريد بلم»، والمثير للتأمل أنه قالها فى الأتراك العثمانيين الذين يعظمهم هؤلاء القوم ويصفهم بعضهم بـ«أسيادنا».
ما العمل من وجهة نظر هؤلاء؟ لا شىء سوى شيطنة الحضارة المصرية القديمة وموروثاتها بحيث يشعر ضعاف المعرفة والثقافة بالنفور منها والتحسس من الانتماء إليها، بالتوازى مع زرع انتماء آخر ليس للحضارة الإسلامية كما كانت حقا بل لـ«صورة الظلاميين عن هذه الحضارة»، فهم لا يستطيعون أن يحدثوك عن تحرر العباسيين ولا عن تعايش الأندلسيين ولا عن السماحة الدينية للفاطميين ولا عن فنون وثقافة المماليك، وإنما يخدمهم فقط الحديث عن مدافع العثمانيين وصيحات الحرب وقصص الذبح والتقتيل والسبى، أما القراءة الحقة فى تاريخ ومحتوى الحضارة الإسلامية فهو كفيل بفضحهم وكشف جهلهم وكذبهم.
ولا يقتصر تحسسهم هذا من الحديث التاريخى المباشر عن الحضارة المصرية القديمة، بل عن موروثاتها فى الثقافة الشعبية، ولو أدرت مثالا يمكننى أن أذكرك بصياحهم كل عام فى عيد شم النسيم بسبب عادات مثل تلوين البيض وأكل الأسماك المقددة، إلى حد قيام بعضهم بتحريم بيع البيض الفسيخ والرنجة والبصل الأخضر فى هذه الأيام.. وقولهم بأنها «مناسبة غير إسلامية».. وهو قول يكررونه فى مناسبات مثل الكريسماس وليلة رأس السنة وغيرها، لكن تشنجهم فى مناسبة شم النسيم بالذات يعكس إدراك هؤلاء القوم أن أعمق وجود للمكون المصرى القديم فى الهوية المصرية يمكنك أن تجده فى ثنايا العادات والتقاليد الشعبية.. تخيل إذن هشاشة فكر أناس يرون فى البيض والسمك والبصل خطرا على العقيدة!
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.

Trending Plus