فضيلة عرفات الغائبة عن حماس.. فلسطين بين فتنة الاحتكار وعقلانية توزيع الأدوار

كان عرفات ماهرًا فى لعبة توزيع الأدوار. صحيح أنها أودت به فى نهاية المطاف، لكنه استثمرها بحسب المتاح، وعلى أفضل ما يكون، لإدارة الاختلافات البينية تحت سقف الإجماع الوطنى، أو الحد الأدنى منه على الأقل، بما لا يهدم البيت أو يُطوح حجارته فى الفراغ، وهذا ما تفتقده القضية اليومَ، أو منذ صعود الرئيس عباس وانقلاب حماس على السلطة، رغم المحاولات البائسة من جانب الحركة لإعادة إنتاج التجربة من داخل العباءة الأصولية، وكما يُشبه مُحادثة الذات فى مرآة مُتكسِّرة.
فاعلية تلك الأداة، كوسيلة للمراوغة والالتفاف على الأمور، إنما تتطلّب خطابًا من مجالين مُختلفين تماما، على أن يكون الشد والجذب لإسناد الشرعية لا تقويضها، إذ الهدف منها أن يتوافق التكتيك مع الاستراتيجية، وتتكامل عناصر القوة فى سياق رؤيةٍ مُحدَّدة ومُتدرِّجة، بحيث يكون المُقاتل ظهيرًا للمفاوض، والعكس، وكلاهما داعم للغاية المُشتركة، أو عاصمٌ من الانزلاق بها إلى مهاوى المجهول.
أى أن تلعب القوّة دورًا فى تحفيز السياسة، ثم فى ترويضها حال الانجرار إلى نزوة طائشة أو اندفاعة غير محسوبة، والاستدراك عليها عندما تقودها الضغوط واختلال التوازُنات إلى مآلاتٍ غير ما يُراد أو يخدم الفكرة الكبرى.
وما من فلسطينى بعد «أبو عمار» أثبت براعتَه فى السير بين غابات السياسة أو تحت ظلِّ السلاح بالكفاءة نفسها، ودفع الأثمان راضيًا، لكنه سلّم الرايةَ عند نقطة أعلى كثيرًا مِمَّا تسلّمها، أو كانت من قبله.
أخطأ الرجل كثيرًا، من عمّان إلى لبنان، وصولاً إلى العودة بعد شتاتٍ طويل للنضال من الداخل. والرحلة لم تكُن مثاليَّةً على أية حال، لأنها كانت مهمَّة ابتعاث للمشروع التحرُّرى بعد ذبولٍ وارتباك ومُشاغبات مع المحيط الواسع.
تقرّبَ من عواصم واشتبك مع غيرها، وتنقَّل بين المنافى اختيارًا فى بعض المراحل، واضطرارًا فى أغلبها، ويُؤخَذ عليه الكثير مُحاربًا ومُفاوضًا، لكنَّ أثمن ما يُحسَب له أنه أعاد البندقيّة لبيئتها مشمولةً بسُلطةٍ ومُؤسَّسات، ووظَّف الرعايات الخارجية لخدمة القضية، دون أن يرهنها لدى أيديولوجيا أو تيّار.
وبالزخم الذى أحدثه كانت الانتفاضة الأُولى (أطفال الحجارة)، ومنها استمد الطاقة لإعلان الدولة من طرفٍ واحد، وخاطب العالم من مراكزه الكُبرى ومنصَّته الأُمَميّة، وخاض جولات مدريد وأسلو، ثم أعاد هندسة مُنظَّمة التحرير بما يتناسَبُ مع دورها الجديد، من دون التغافُل عن الحاجة إلى قبضةٍ صُلبة مُرافقة، تُعين ولا تشين، وتُجدِّد ولا تُبدّد.
لم تكُن العلاقةُ مع حماس بردًا وسلامًا منذ نشأتها، لكنه احتضنها وأقرّ لها بالاختلاف، وكان يتمايز عنها ظاهرًا، ويتلاقى معها من وراء ستار، حتى شاع أنه يُوقِفُ عناصرها من باب المخفَر ويُطلقُهم من الشبابيك.
وما من دليل أكبر على هذا، من أنّه قضى آخر سنواته مُحاصَرًا فى مقر إقامته «المُقاطعة» باتهامات من الاحتلال بدعمه الحركة، وتحميله مسؤولية سفينة الأسلحة المضبوطة على سواحل غزة فى العام 2003، وصولاً إلى تسميمه، لا للخلاص من كاريزما القائد وأبرز رموز النضال الأحياء فحسب، بل للإجهاز على هامش المُداراة وتقسيم الأدوار بين الحُكم الحائز للشرعية، والمُقاومة المستندة إلى العدالة والحق، وكفاءة الواجهة الرسميّة أيضًا.
واحدةٌ من أوضح النماذج كانت فى الانتفاضة الثانية، خريف العام 2005، إذ بعد وقت قصير من اندلاعها منح الزعيمُ إشارتَه بإرساء آليّة تنسيق عمليّة ظاهرة بين كلِّ المُكوِّنات، فكانت تجربة «ائتلاف القوى الوطنية والإسلامية» برئاسة القائد الفتحاوىِّ البارز دومًا والأسير حاليًا مروان البرغوثى، وقد ضمَّت بجانب مُنظَّمة التحرير وأعضائها، بقيَّةَ الفصائل غير المُعترفة بأوسلو أو المُنخرطة فى ترتيباتها، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد.
تمتع الكيان الجديد بنفوذٍ كبير، وخُطِّطَ له أن يُنسِّق الجهود المشتركة فى أعمالٍ سياسيّة تُجابه الاحتلال، ولا حاجةَ للإشهاد على أن الوسائل الخَشِنة أيضًا لم تكُن بعيدةً من مدار التنسيق، إذ لم تتوقّف، ولم تكُن سببًا فى صراعٍ بَينىٍّ واحترابٍ أهلى، ما يعنى أنها كانت محلَّ وِفاقٍ واتّفاق.
اللافتةُ التى اخترعها ياسر عرفات قبل رُبع القرن، استعارتها حماس فى سنواتها الأخيرة، غير أنها كانت لغرضٍ يتضادُّ تمامًا مع سابقتها، ويُمكّن لفصيلٍ دون الآخرين أن يُمرِّر رؤاه تحت عناوين أكبر من حجمه وحصته التمثيلية.
منحت الحركةُ مشروعَها الاحتكارىَّ، أو أحد تمثُّلات برنامجها للاستيعاب والتأطير، مُسمَّى «فصائل العمل الوطنى والإسلامى الفلسطينى»، وضمَّت إليه الجهاد وبعض الميليشيات الرديفة فى غزَّة، وتُصدِر بياناته تحت عنوان «الفصائل الفلسطينية»، هكذا بإطلاقٍ كامل، ومن دون تحديد أو تخصيص.
ولا دور لتلك النافذة إلَّا أن تتبنَّى السرديَّة الحماسية حصرًا، وتُكاتفها فى مساعيها للانفراد بالقرار، وتحييد المُمثِّل الشرعى الوحيد للشعب وقضيّته فى رام الله، بل إبعاد الضفة الغربية بكاملها عن الحضور الفاعل فى الصراع، وبما يتناسب مع وزنها الجغرافى والديموغرافى، باعتبارها الثِّقَل الأكبر والأهمّ فى الدولة المُرتَجَاة.
كأن حُكَّام الأمر الواقع فى القطاع لم يقتطعوه من الجسد الكبير كخطوةٍ مرحلية للتمدُّد والابتلاع فقط، بل اكتفوا به عن البقيَّة الباقية من فلسطين، واختزلوا الأخيرة فى الـ365 كيلو مترًا التى دانت لهم تحت البطش وحاكميّة السلاح والشعارات الأُصوليّة.
نسخةُ عرفات سَعَتْ إلى التجميع، ونسخة السنوار وورثتِه غايتُها التفريق وإدامة الانقسام، مع الإيحاء زورًا بإجماعٍ غير مُتحقِّقٍ فعليًّا على الأرض، وتوظيفه للتصويب على الداخل والخارج، انطلاقًا من تصوُّرات حماس وحدها، وما يصبُّ فى مصلحتها وتزعُمُ أنه لصالح القضية بالإجمال.
وآخر عطايا «المسجد الضِّرار» أنه أصدر بيانًا ظهيرة السبت الماضى، يُؤَمِّنُ فيه على خطابٍ سابق لخليل الحيّة من الدوحة، يدعو المصريين للاستنفار وقيادة الزحف إلى معبر رفح، بغرض كسر الحصار بالقوّة وإدخال المساعدات إلى القطاع.
ومن باب التناقُض المحض، فقد جمعَ ما لا يُجمَعُ فى الورقة نفسها، بالاعتراض على عمليات الإنزال الجوى للمواد الإغاثية، لأنها بحسب نص البيان الغريب «يستخدمها العدوُّ لضَرب رواية المجاعة».
ولا يُعرَفُ إزاءَ هذا المنطق، إن كان المقصود ضرب المجاعة نفسها وإرخاء قبضتها الغليظة على الغزِّيين وبطونهم الخاوية، أم الاستثمار فى روايتها ضمن رُؤيةٍ تنحازُ للتعبئة والدعايات على حساب إنقاذ الضحايا، وفق الظرف والإمكانية.
وهو ما يطعَنُ بالتبعية، وبأثرٍ رجعىٍّ، فى قرار الطوفان الذى لم يكُن محسوبًا فى مُقدِّماته أو مآلاته، ثم فى إدارة قادة الفنادق الحماسيِّين لجولات التفاوض الطويلة، فيما يُصرّحون بالشىء وعكسه، ويُسَلّمون الصهاينة زمامَ الأمور ورقابَ المنكوبين، ولا يُبدون حماسةً حقيقية لادِّعاءاتهم بالاستعداد لمُغادرة المشهد، إلَّا لو كانت على أشراط التنظيم ورُعاته الخارجيِّين.
ومحور ارتكاز تلك الصيغة المقصودة، يُطابِقُ ما يتشدَّدُ فيه نتنياهو بشأن الرفض المُطلَق لحلول السلطة بديلاً، والدفع باتجاه إدارة مَدنيَّة، قد تستتبعُ بالضرورة حالةً من الفوضى وغياب الرؤية، فيما يخصُّ التعافى وإعادة الإعمار، أو تستجلب وصايةً دوليّةً بمُواكبةٍ أمريكية، وقد تفتحُ أبواب الجحيم مُجدَّدًا، عندما تسعى الحركة للنفاذ من شقوقها، أو الهيمنة عليها بالاختراق والاحتيال أو بالتشغيب والترهيب.
أمَّا فى المُقابل، فقد تزامنت مع بيان حماس المشبوه مُطالبةٌ من شخصيَّاتٍ وطنية مُتنوّعة الأطياف، تضمُّ ساسةً وأكاديميِّين ونقابيِّين وأسرى مُحرَّرين وعشائر، من كلِّ الشرائح والفصائل والقوى الشعبية، ضمن مبادرة «الشعب والوطن أوّلاً.. وثيقة الإنقاذ الوطنى»، دَعَوا فيها إلى الإعلان الفورىِّ عن إحالة ملف غزّة إلى لجنةٍ عربيّة برئاسة مصر، لفترةٍ انتقالية، تمهيدًا لإيكال المسؤولية إلى السلطة الوطنية بولايةٍ كاملة على القطاع، وذلك بحسب قولهم: «لإنقاذ ما تبقَّى من الوطن والمواطنين، وإسقاط مشروع التهجير والوطن البديل».
وغَنىٌّ عن القول أنَّ القاهرة ترفض تمامًا ألَّا يكون الحَلُّ بملكيَّةٍ فلسطينية خالصة، ومثلما رَعَت عشرات اللقاءات على طاولة المصالحة لقرابة العقدين، فإنها تعمل حتى اللحظة فى مسارٍ مُزدَوَج، أولويَّته وَقفُ العدوان وإنقاذ الغزِّيين من مأساتهم، وبالتوازى محاولة وَصْل المُنقطع وترميم العلاقة بين المُكوِّنات الوطنية الفلسطينية، وفى قلبها مُنظَّمة التحرير والسلطة مع حركة حماس وحُلفائها.
وسواء تتقصَّد الدعوةُ إرساء فعاليَّة جديدة، أو إنابة اللجنة الوزارية المُشكَّلَة عن القمَّة العربية الإسلامية بالمهمَّة، فإنها لن تكون مَخرجًا عَمليًّا من الانسداد الراهن، ولا محلَّ ترحيبٍ من مصر وبقيّة العواصم الفاعلة، إذ بمقدور كتائب القسّام، أو بقاياها، أن تُفسد كلَّ مُقاربةٍ لا ترضى القادة ومُشغّليهم، لكنها فى الوقت نفسه، تُعبِّر عن الضيق وارتفاع منسوب الغضب داخل البيئة الفلسطينية، والأهم والأخطر أنها تُشير إلى انقطاع الأمل فى التلاقى ضمن ورشةٍ جامعة، تُعيد تكييف الرُّؤى والمواقف، وتُوزِّعُ الأدوارَ بما يُعظِّم الفاعليَّة ويُحقِّق الإنقاذ واستدامة النضال.
تجلَّى الغضبُ سابقًا فى عشرات التظاهُرات داخل غزّة، وقد استمرت أيَّامًا مُتَّصلةً وتجدَّدت أسبوعًا بعد آخر، وما نجحت آلةُ البطش الحماسيَّةُ فى وَقفها على عَجَلٍ كما أرادت، ولا هدأت حِدَّتُها إلَّا بعدما ازداد ثِقَلُ العنف والجوع على كاهل الغاضبين.
وما خَفُت ضجيجُه فى جغرافيا القطاع الحقيقية، اتّصل ولم ينطفئ فى فضائه الافتراضى ساعةً واحدةً، وتكفى جولةٌ سريعة على حسابات الغزِّيين فى مواقع التواصل الاجتماعى المُختلفة، لمعرفة ما آلت إليه الأوضاع، وكيف تنظرُ الغالبيّةُ المُتألِّمة وغير المُؤَدلَجة للمشهد، وطبيعة انفعالاتهم تجاه رجال حماس فى الفنادق، وعلى شاشات التليفزيون المُلوّنة عقائديًّا وسياسيًّا.
وما من شَكٍّ فى أنَّ الانقسام يفيضُ على البشر والحجر، فلا يحتملان الآن مزيدًا منه، وليس الحَلُّ فى الدعوة إلى شَحذ قُوى الداخل والخارج ضد حماس أو غيرها، لكنَّ الحركة تحتاجُ لاستيعاب أنَّ تطرُّفَها مع حاضنتها وحزامها اللصيق، لن يَستَدعى إلَّا ما يتناسَبُ معه، ليُساويه فى المقدار ويتضادّ معه فى الاتجاه، كما تقضى قوانين الفيزياء.
إذ لم يَعُد مليونا غزّىٍّ فى القطاع، وأضعافُهم فى الضفَّة والشتات، يقتنعون باختطافهم لصالح أيديولوجيا الإخوان ورُعاتهم، أو ما يُمثِّلونه وينوبون عنه من أجنداتٍ سياسية «فوق فلسطينية»، تُتاجر بالقضية وتتربَّح منها على حساب مَنكوبيها العُزّل، فيما لا يبدو لهم من أبناء جِلدتهم أىُّ انشغالٍ حقيقىٍّ بالنكبة التى تسبَّبوا فيها، واستَجلبوها عليهم بإرادةٍ فردية، ويُجَيّرون خسائرَها الثقيلة لحساب تأجيج العاطفة والنفخ فيها، وخَوض المعارك الأُصوليَّة المشحونة مع الأصدقاء، بدلاً من إدارة هزيمتهم مع الأعداء بحكمةٍ وتعقُّل.
غريبٌ للغاية مثلاً، أن يدعو أسامة حمدان من أمام مائدته العامرة بأطايب الطعام، إلى إدخال المساعدات عنوةً عبر معبر رفح، لتقصفها إسرائيل، بنصِّ قَوله لا بالاستنتاج المنطقىِّ.
تلك العقليّة لا يعنيها إطعامُ الجوعى قطعًا، بل تطمع فى صورةٍ تُغذِّى بها آلتها الدعائية، وتُضيف لرصيدها الاستثمارى فى المأساة. وربما تُرتِّب فى تصوّرها المثالىِّ، أن يقع الاشتباكُ المأمول بين مصر وإسرائيل، وتتحقَّق رُؤية الطوفان المقصودة سَلَفًا، بعد شهورٍ من ابتلاع صاحبه فى أمواجه الهادرة.
والاستخلاص نابعٌ من أنّه لا مُبرِّر من عقلٍ أو انتهازيّة لهجمة الغلاف، إلَّا أنها كانت بحثًا عن الصورة أيضًا، وسعيًا لخلط الأوراق وفَتح الجبهات على بعضها، بما لا يطلبُ الفعلَ المُقاومَ لذَاتِه، وبغَرَض التراكُم والبناء المُتدرِّج، بل لاصطناع حربٍ إقليمية واسعة، إمَّا أن تربح فيها حماس، أو يخرج الجميعُ خاسرين.
أمَّا آلافُ الضحايا وأضعافُهم من المبتورين واليتامى، فمُجرَّد خسائر تكتيكية، كمال قال خالد مشعل، ورصيد فى خَزَانة الشحن والابتزاز ورَفع الكُلفة الأخلاقية على الجميع، فيما لا يُسألُ المُقاتل عمَّا استخفّ به دون حاجةٍ أو منطق، وما جَنَاه على البلاد والعباد اليومَ، ولعُقودٍ طويلة مُقبلة، حتى فى أشدِّ حالات الضِّيق من بعض المُمارسات، لم يَطعن عرفات فى حماس طعنةَ القتل، ولا تشدَّدَ فى دعوتها إلى الدخول تحت مظلَّة مُنظَّمة التحرير. جرت بينهما الخلافات والتوافقات، افترقا وتلاقيا، وتبادلا الانتقادات والدعم، حتى أنه أمدّها بالمال والسلاح زمن انتفاضة الأقصى.
وإجمالاً، كان قادرًا على احتوائها، وكانت عاجزةً عن مُقارعة هالته البرّاقة وسطوته الأبويّة. كما كان بإمكانه أن يُوازِنَ بين جَناحَى المقاومة السِّلميّة والعنيفة، وأن يُعوِّض برمزيّته وفائضه المعنوىِّ الكاسح ما يصطخب لدى الحماسيين وفى خطابهم، كأنه ربُّ عائلةٍ يرعى غنمَها الشاردة، ويعرفُ مفاتيح البارّ والعاق من الأبناء.
وغيابُ الرجل الاستثناء أضعفَ المنظومةَ السياسية قطعًا، وعزَّز أطماع الدائرة الأُصوليّة ورَفعَ سقفَها إلى عنان السماء. استشعرتْ «رام الله» نُذُر الخطر والتهديد، وانقلبت الحركةُ افتتاحًا لخطّتها بغزَّة، على أمل أن تبتلع السلطة وترثَ بقيَّة التركة، طال الوقت أم قَصُر.
منذ العام 2007 انكسرت لعبةُ تقاسُم الأدوار، وذهب كلُ تيَّارٍ فى مسارِه وحيدًا، وعاريًا من إسناد الآخر، فأعانا العدوَّ المُشتركَ عليهما معًا، وازدادا ضعفًا، وكان الواحدُ منهما خنجرًا فى خاصرة الثانى.
وذلك، بينما كان اليمينُ المُتطرِّف فى إسرائيل، بلَونَيه القومىِّ والتوراتىِّ، يُراكِمُ المكاسبَ ويُعظِّمُ اختلال المُعادلات، وصولاً إلى حرب غزّة الخامسة بلا أُفقٍ لإنهائها أو ترشيد تكاليفها، ومن دون هامشٍ لمُداراة الاعتلالات العضال، واستعادة التوازن بين السياسة والسلاح/ المُفاوِض والمُقاتِل، حتى أنه لم يَعُد من مَخرجٍ مُتاح الآن، إلَّا أن تخرُج حماسُ من عباءة الفُتوّة لتدخُلَ فى رداء المَظلَمة، دون مُبالغات لا تتجاوز الحناجر.
ويتوجّب مع هذا، تسليم عُهدتِها للسلطة الشرعيّة، كمنفذٍ وحيدٍ للنجاة، ومُبتدأ اضطرارىٍّ يُصَارُ منه إلى إعادة تكييف المشروع النضالىِّ تحت سقف جديد، وفى مدىً زمنىٍّ لن يكون قصيرًا بأىِّ حالٍ، وقد يستغرقُ جيلاً كاملاً على الأقلِّ، قبل أن يتوصَّل إلى صِيغةِ التجاور والمُساكَنَة الناضجة بين البندقيّة والدبلوماسية.
وعلى قدر الخِفّة والوهن والاحتياج هُنا، فلا تغيبُ لُعبةُ توزيع الأدوار عن الجبهة المُضادة. يُديرُها نتنياهو منذ اليوم الأوَّل بقَصديّة واضحة مع حُلفائه التوراتيين.
هدَّد «بن جفير» كثيرًا، وانسحب من الحكومة مع هُدنة يناير، ثمّ عاد بعد فشلها. وفيما أقرّ الكابينت بعد اجتماع الساعات العشر يوم الجمعة، خطَّةَ احتلال القطاع بالكامل، خرج وزيرُ المالية المُتطرِّف بتسلئيل سموتريتش ببيانٍ مُطوّل، ينتقدُ فيه ويُزَمجِر ويُحذّر من الرجوع حالَ التلويح بصفقة.
وإلى ذلك، فالفوران داخل الائتلاف يتوازَى مع صراعاتٍ عّدة خارجه، داخل الكنيست وفى الشارع وما بين المعارضة بأطيافها، الجميع مُمثِّلون على مسرح الأحداث، يتّفقون ويختلفون ويتبادَلون الشتائم والانتقادات، لكنهم لا يحيدون عن الأهداف العريضة للحرب، حتى الذين يُقدّمون استعادةَ الأَسْرى، يُعلنون مطلبَهم على نيّة الإبادة المُرجَأة، لا المُستبعَدة أو المُنكَرة على جنودهم وشركائهم فى النزعة النازيّة.
والحال، أنَّ الاشتراك المُتكافئ فى المهمَّة الواحدة يُوجِبُ اللقاء عليها أصلاً، والإيمان بالشراكة الكاملة والنهائية فى المسار والمصير.
وهذا ما يغيبُ عن الحماسيِّين للأسف، لأنهم لا يرون سواهم، وقد خَصخَصوا القضية لصالح عُصبتهم الفكرية والحركيّة، ومصالحهم ودوائر تحالفاتهم، ويختزلونها فى كيانهم ورايتهم، ولا يُقَيّمون النصر والهزيمة إلَّا بمقدار ما تخسره الحركة أو تربحه.
وعليه، فإنهم لا يُبدون أَلَمًا حقيقيًّا لِمَا أصاب القطاع، طالما أنهم قادرون على الوقوف فوق أطلاله، ويداعبُهم خيالُ البقاء والتجدُّد الفينيقى، ووراثة ما قد يتبقَّى من الرُّكام ومزرعة الموت العريضة، بعدما يفرُغ الغولُ من وجبته المجّانية.
فلسطين أحوجُ ما تكون لاستدعاء إرث عرفات، بكلِّ ما عليه من مُلاحظاتٍ واعتراضات، وبما أخطأ فيه قبل ما أصاب. تلك الحالةُ الوطنية التى جرَّبَتْ الوصفات وبدائلَها، فأحسَنَت وأساءت، وتعثّرت أيضًا، من دون أن تَهوى بالقضية أو تُودى بها إلى الهلاك.
القُدرةُ على مُخاطبة العالم بغصنِ زيتونٍ وابتسامةٍ غاضبة، وعلى مُناكفة الاحتلال ببندقيَّةٍ مُستَتِرة، لا يُخوّن الآخر ولا يدّعى عصمةَ الذات، ويعرفُ أنَّ المحطة التى تُخَرّبُ القطارَ لا تستأهلُ السير إليها، وأنَّ البيت لا يستقيم إلَّا بجهود العائلة كلِّها، والغباء كلّ الغباء أن تضع البيضَ فى سَلّةٍ واحدة، أو تُوحِّدَ السلاح والسياسة تحت رايةٍ دون غيرها، فتُيَسِّر على العدوّ أن يصطادهما برصاصةٍ مُفردة.
توزيعُ الأدوار يبدأ بالاعتراف والاعتذار، بالرجوع خطواتٍ إلى الوراء، وإنجاز المُصالحة فى قلب المأساة، لأنه لا وقتَ أَوْلَى بها من هذا، وتقديم الأقدر على دَفع الضَّرَر، وإنْ تأخّرت المنفعة، وتَنحية مَن يستجلِبُ الهزائم ويُمدِّدُ الذرائع، ولو فى الإبعاد مرارةً واستشعارًا للنكوص.
القسمةُ الواعية أوَّلُها أن يبتعِدَ الفَشَلةُ عن أدوار البطولة، وأن يُعَاد الاعتبارُ لنموذج عرفات، مُقابل الفحص والمُراجعة والاستدراك على سقطات السنوار وهنية والحيّة، والخروج من قيودهم وكلِّ نماذجهم الشبيهة، المُغامرة والمُستَتبَعة، عاطفيَّةً كانت أمْ انتحاريَّةً ومُغرِضَة.

Trending Plus