هندسة الإدراك الإيجابي لدعم الدولة وبناء الإنسان

نستطيع القول أن العقول في زمن العولمة الرقمية أضحت هي الميدان الأوسع لمعارك النفوذ والتأثير، حيث تتبدل موازين القوة وتعاد صياغة مفاهيم التنمية على أسس جديدة، وأصبح الوعي الإنساني والإدراك الواعي الهدف الأسمى ومجال الصراع الأكثر حيوية في تحديد مسارات الدول، إذ انتقل الإنسان من موقع المتلقي السلبي للرسائل الإعلامية والمضامين معرفية، إلى بؤرة استهداف مباشر عبر ما يعرف بـهندسة الإدراك؛ تلك العملية الدقيقة والمعقدة التي تعمل بخطوات مدروسة على إعادة تشكيل الفكر وصياغة الوعي وبناء التصورات عن الذات والعالم وفق أهداف محددة.

وتكشف هندسة الإدراك الإيجابي عن نفسها كقوة ناعمة عالية الفاعلية وإطارًا فكريًا وتطبيقيًا يوجه وعي الفرد والمجتمع نحو إدراك واع، متوازن، وفاعل يواكب التحديات ويستثمر الفرص، والمشاركة الواعية في صياغة المستقبل، وتزداد أهمية هذا النهج في ظل الجمهورية الجديدة، التي تخوض مشروعًا وطنيًا شاملًا للتنمية المستدامة، يرتكز على بناء الإنسان باعتباره الثروة الحقيقية والركيزة الاستراتيجية لأي نهضة حضارية، فاستثمار الطاقات البشرية فكرًا ومهارةً وابتكارًا، ضرورة وجودية لضمان قوة الدولة وصمودها أمام التحولات العالمية.

وتعد هندسة الإدراك الإيجابي مشروعًا وطنيًا متكاملًا لبناء وعي جمعي راسخ يعزز الانتماء، ويحفز الإبداع ويجعل من المواطن شريكًا فاعلًا في صياغة طموحات الوطن وحارسًا أمينًا لهويته وأمنه وموارده، خاصة في عالم تتسارع وتيرته وتتبدل معادلاته على نحو غير مسبوق، تمثل هندسة الإدراك الإيجابي نسق استراتيجي متكامل من السياسات، والمناهج، والأدوات، يهدف إلى صياغة طريقة الفرد في النظر إلى ذاته ودوره ووطنه والعالم من حوله، وهي تعمل على ترسيخ قيم الانتماء وتنمية ثقافة العمل والإبداع وتحفيز المشاركة الواعية في صناعة المستقبل.

وتقوم الهندسة الفكرية على تزاوج مدروس بين العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية، من علم النفس الاجتماعي وفلسفة التربية، إلى علوم الاتصال وتكنولوجيا الإعلام، بحيث يتحول الإدراك من كونه رد فعل تلقائي إلى فعل واعٍ ومقصود موجه نحو البناء والتنمية، ومن ثم يصبح الوعي قوة فاعلة قادرة على تحصين المجتمع من محاولات التشويه أو الإرباك، ودافعة به في الوقت ذاته إلى آفاق أرحب من الإنجاز والتقدم.

وتهتم الدولة بالجمهورية الجديدة إلى بناء قوة وعي جمعي يدرك قيمة الاستقرار، وأهمية الوحدة الوطنية، وخطورة التحديات التي تواجه الدولة، سواء كانت خارجية أم داخلية، ومواجهة ضعف الثقة وفقدان البوصلة الفكرية لدى المواطن وهنا تأتي هندسة الإدراك الإيجابي في بناء مناعة معرفية تحمي العقول من الانجراف وراء الحملات الموجهة أو الأفكار الهدامة وتحصين المجتمع بالوعي النقدي والقدرة على التمييز بين الحقائق والدعايات المضللة ضد حملات التشويه والشائعات التي تستهدف زعزعة الثقة بين المواطن ومؤسساته، ولإعادة صياغة مفاهيم المواطنة باعتبارها شراكة واعية في صناعة القرار، ودعم السياسات الوطنية، وتبني رواية وطنية ملهمة تسرد إنجازات الدولة بلغة قريبة من الناس، وتربطها بحياتهم اليومية، مبرزة أثرها المباشر في تحسين جودة المعيشة والحياه.

وتتحقق هذه المناعة عبر مسارين متكاملين إذكاء الحس النقدي وتعليم الفرد كيف يُسائل المعلومة قبل قبولها، ويتحقق من مصادرها، ويقرأها في سياقها الأوسع، وكذلك تعزيز الانتماء الواعي، من خلال ربط مشاعر الولاء للوطن بالمعرفة الحقيقية للتحديات الوطنية، وتوسيع أفق الفهم عبر تقديم المعلومة الصحيحة في إطار شامل، يربط الماضي بالحاضر ويستشرف المستقبل، بما يعمق الفهم ويقوي الارتباط بالهوية، وبذلك تتحول هندسة الإدراك الإيجابي إلى درع معرفي وسلاح فكري، يحافظ على تماسك المجتمع ويعزز ثقته بذاته ويجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات والمضي بثبات نحو أهداف التنمية والاستقرار.

وقد وضعت الجمهورية الجديدة الإنسان في قلب مشروعها التنموي، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الاستثمار في البنية التحتية المادية، مهما بلغت ضخامتها، لن تؤتي ثمارها ما لم يصاحبها استثمار موازٍ في البنية التحتية البشرية، ويشمل ذلك تطوير التعليم ليصبح أداة لبناء العقل النقدي القادر على التحليل، وحل المشكلات، وصناعة القرارات الرشيدة، إلى جانب تعزيز الثقافة الوطنية التي تحافظ على الهوية في ظل العولمة، وتجعلها منفتحة على العالم دون أن تذوب فيه، كما يمتد هذا الاستثمار إلى تنمية القيم الأخلاقية مثل الأمانة، والإتقان، والانضباط، والعمل الجماعي، بحيث تتحول هذه القيم إلى جزء أصيل من الوعي الجمعي.

ولا يمكن لأي دولة أن تحقق نهضة مستدامة دون إنسان يمتلك وعيًا إيجابيًا وقدرة على المبادرة والإبداع، بحيث يصبح الاستثمار في هندسة الإدراك الإيجابي استثمارًا مباشرًا في رأس المال البشري، عبر منظومة متكاملة تشمل تعليم نوعي يدمج بين المهارات الفكرية والقيم الأخلاقية، وإعلام مسؤول يقدم محتوى يحترم عقل المتلقي، ويحفزه على التفكير النقدي والإبداعي، ومؤسسات ثقافية وفنية تبني الوجدان، وتدعم الهوية الوطنية، وتفتح آفاق الخيال والإبداع.
وتتبنى الجمهورية الجديدة رؤية تجعل من المواطن الفاعل محور التنمية وأساس استدامتها، وهذه الرؤية تعتمد علي برامج تدريب وتأهيل تواكب متطلبات سوق العمل العالمي، مع شراكات مع مؤسسات تعليمية وبحثية رائدة، وتوفير منصات حوار مجتمعي تمكن الأفراد من التعبير عن آرائهم، والمشاركة في صياغة السياسات العامة، وتعزيز قيم العمل والإتقان بوصفها ركيزة للنهوض الاقتصادي والاجتماعي، وتمكين الشباب من الانخراط في سوق العمل الحديث، القائم على الاقتصاد المعرفي والابتكار التكنولوجي، وتطوير القيادات المستقبلية عبر برامج إعداد وصقل المهارات القيادية والإدارية، وتشجيع البحث العلمي والابتكار باعتبارهما محركات أساسية للتنمية، مع توفير بيئة حاضنة للمبدعين ورواد الأعمال.
ونؤكد أنه بهذا النهج، تتحول هندسة الإدراك الإيجابي إلى قوة دافعة استراتيجية، تسهم في بناء مواطن واعٍ، متسلح بالعلم والقيم، متمسك بهويته وجذوره، وقادر في الوقت ذاته على المنافسة في الساحات الإقليمية والعالمية، فالمواطن الذي يمتلك هذا الوعي المسؤول يصبح شريكًا حقيقيًا في صياغة مستقبل وطنه، وركيزة أساسية في تحقيق طموحاته، فالاستثمار في العقل والوعي هو الضمانة الأهم لاستدامة النهضة، وحصنها المنيع في مواجهة التحديات المتغيرة، وهو السبيل لتحقيق رؤية الجمهورية الجديدة في بناء وطن قوي بأبنائه، غني بثقافته، راسخ بقيمه، ومزدهر بإبداعه، وطن يعرف كيف يحافظ على استقراره، ويعزز مكانته، ويواصل مسيرة تقدمه بثقة وثبات.