وائل السمري يكتب.. يحيى الفخراني في المسرح القومي.. لا تفوتكم هذه المعجزة.. في نهاية المسرحية وقف الجميع في استقباله وللمرة الأولى شعرت أنه من الواجب أن ينحني الجمهور له لا أن ينحني للجمهور

كانت الأحداث في أوجها. تشابكت الخيوط الدرامية واشتعلت الأجواء، وفجأة وبدون مقدمات، وقفت سيدة في قلب المسرح هاتفة:
“ربنا يخليك لينا يا دكتور يحيى.. يا فنان الشعب”.
أربكت هذه السيدة الحضور.. أربكت حتى يحيى الفخراني نفسه، فتوقف عن التمثيل لثوانٍ.. ثم بدأت عاصفة من التصفيق الحار.. وعلت وجه الفخراني ابتسامة رضا، ثم أكمل.
قد يرى البعض في أداء الدكتور يحيى الفخراني لشخصية الملك لير في مثل هذا العمر إعجازًا.. وقد يرى آخر ما يستحق أن يثير العجب، متسائلًا: كيف يمشي هذا الفنان الكبير على عكاز في الحياة العادية، ثم يتحول إلى شاب في كامل لياقته على المسرح؟
لكنني أرى أن المعجزة الحقيقية التي تستحق أن تُشاهد وتستحق أن نرويها لأبنائنا هي كيف استطاع الفخراني أن يحتفظ بكل هذا الفن الناصع في هذه الأيام المظلمة؟
تلك هي المعجزة والله.
كلنا نقف في طابور البكائين على حال الفن وتدني الذوق.. لكن يحيى الفخراني لم يكن له أن يصمت. فكانت صورته بالعباءة البيضاء على المسرح تشبه القمر الهادئ.. القمر المنير.. القمر المتمرد على كل قبيح، المغرد بكل جميل.
أعاد الفخراني إلى المسرح القومي أصالته، وأعاد له بريقه، وأعاد له أولاده أيضًا.
غالبية الفنانين الذين يشاركونه في العرض من أصحاب المواهب الكبيرة والشهرة المحدودة لكنه وقف بجانبهم، يلهمهم ويعلمهم ويمنحهم سطرًا ذهبيًا في سيرتهم الذاتية، ليحكوا لأبنائهم فخورين:
“لقد وقفنا ذات يوم بجانب يحيى الفخراني”.
في المسرحية عشرات المشاهد التي تأخذ القلب وتصهر المشاعر.. لكني في الحقيقة لم أذهب لأشاهد مأساة الملك لير وقصة جحود بناته.. ذهبت لأرى وجه يحيى الفخراني.
بل إنني كنت أتابع حوارات الشخصيات التي تشارك معه في المشاهد من خلال وجهه فحسب.
حينما كالت له ابنته التأنيب، كنت أتفرس في وجه الفخراني النبيل.. في كل كلمة تعبير من قاموس التعبيرات البليغة التي يخفيها في وجهه المعجز.
كان وجه الفخراني بالنسبة لي أشبه باللحن الأصيل.. فلكل كلمة صورة، ولكل تعبير معنى، وكان من المدهش أن أرى الدموع حقيقية تزين وجهه المنير فسألت: هل يبكي الفخراني كل يوم في هذا المشهد؟ وكانت الإجابة: بالطبع.
قديمًا كان رواد الموسيقى يفضلون المدرسة التعبيرية في الألحان، فكنا نرى سيد درويش يلحن كلمة “زروني” ويمد فيها وكأنه يتوسل إلى أحبائه، وكنا نرى زكريا أحمد يكرر كلمة “وطرنا وعلينا” في أغنية “حلم” ليدلل على الابتعاد في الطيران.. ونرى بليغ حمدي يلحن “وكان الحب بينا كبير صغر لما ابتدينا نغير” فيمد في كلمة “كبير” كثيرًا ليدلل على كبر الحب، ثم يخطف كلمة “صغر” ليدلل على ضآلته بعد الغيرة.
وجه الفخراني بالنسبة لي في مسرحية الملك لير كان بذاته وفي ذاته موسيقى تصويرية ولحنًا جميلًا.
إن سألتني عن قوة مصر الحقيقية، سأقول لك: اذهب للمسرح القومي لتراها متجسدة شاخصة.
وإن سألتني: ماذا تعني كلمة فنان؟ فسأقول لك: اذهب لترى يحيى الفخراني، فقد أعاد هذا الرجل النبيل إلى الكلمة معناها الحقيقي، وانتسب بكل رسوخ واستحقاق إلى قائمة أهرامات مصر الفنية.
فرصة عظيمة لن تتكرر.. أن ترى فنانًا حقيقيًا لتعرف كيف تفرق فيما بعد بين الفنانين والمسوخ.
ففي الوقت الذي يتباهى فيه المدعون بأن سعر تذاكر حفلاتهم عشرات الآلاف من الجنيهات، وفي الوقت الذي يتهافت فيه الجميع أمام عشرات الآلاف من الدولارات، يقف الفخراني ليقدم هذه الجرعة الاستثنائية من الفن الراقي بخمسين جنيهًا فحسب، ليستحق فعلًا لقب “فنان الشعب” كما نادته السيدة في قلب المسرح،
في نهاية المسرحية وقف الجميع في استقبال الملك “يحيى الفخراني”، ولن أتحدث هنا عن الحب والإجلال الذي شعر به الجميع تجاه هذا الرجل الهرم.. لكني، وربما للمرة الأولى في حياتي، شعرت أنه من الواجب أن ينحني الجمهور لممثل، لا أن ينحني الممثل للجمهور.
لا يفوتني هنا أن أتوجه بالشكر إلى صديقي المبدع هشام عطوة، رئيس البيت الفني للمسرح، والدكتور أيمن الشيوي مدير المسرح، كما لا يفوتني أن أشير إلى البراعة الإخراجية للفنان شادي سرور، ومصمم الاستعراضات ضياء شفيق، والموسيقى التصويرية لأحمد الناصر، ومصممة الملابس علا علي، ومصمم الديكور الدكتور حمدي عطية.
ألف شكر على هذا الجمال الاستثنائي.

Trending Plus